عادة جاهلية تزهق الأرواح
الثأر.. فى ميزان الشرع

لم يكن الدكتور محمد عبد الحليم، أستاذ علم النفس وعضو مرصد الأزهر، يتخيل أن زيارته الأخيرة لمسقط رأسه فى عيد الأضحى ستنتهى على هذا النحو المفجع، إذ جاء يبحث عن دفء العائلة ونسائم السلام، فوجد نفسه ضحية لخلاف قديم على قطعة أرض، امتدت شظاياها إلى قلبه، وهو جالس آمنًا بين أهله، فسقط جسد العالم الجاد، والباحث المستنير، برصاصة لا تعرف علمًا ولا رحمة، فى مشهدٍ يلخص مأساة مجتمع ما زال بعضه يسكنه منطق الجاهلية، حيث تُستباح الأرواح باسم الثأر، ورغم مرور الزمن يبقى السؤال : إلى متى يظل الثأر سيفًا مشرعًا فى وجه الأبرياء؟
قُتل الدكتور محمد عبد الحليم، المدرس بقسم علم النفس والإحصاء النفسى والتربوى بكلية التربية بنين بجامعة الأزهر، وعضو وحدة البحوث والدراسات بمرصد الأزهر، إثر إصابته بطلق نارى خلال مشاجرة مسلحة اندلعت بين أبناء عمومته فى مركز الغنايم بمحافظة أسيوط، عندما عاد إلى قريته لقضاء إجازة عيد الأضحى مع أسرته وأولاده.
قال الدكتور نظير محمد عياد، مفتى الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم، أن الدكتور عبد الحليم كان من خيرة شباب الباحثين، عرف بأخلاقه العالية، وفكره الواعى، وسعة أفقه، ونقاء سيرته، وجدية عطائه العلمى.
وأضاف المفتى: «كان عبد الحليم حاضرًا بقوة فى مجاله، وبذل جهدًا ملموسًا فى التصدى للفكر المتطرف والدفاع عن وسطية الإسلام وسماحته، مشيرًا إلى أن رحيله بهذه الطريقة الفاجعة يُعد خسارة فادحة للمجال العلمى والبحثى، ولزملائه الذين عرفوه إنسانًا خلوقًا، مخلصًا، محبًا للخير، مؤمنًا برسالة العلم فى خدمة الدين والوطن.
كما وصف الدكتور أسامة الأزهرى، مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الدينية ووزير الأوقاف، الفقيد، بـ»الباحث الفاضل والمخلص»، مشيرًا إلى أن «روحه الطاهرة ارتقت إثر يد غادرة آثمة لا تعرف للرحمة سبيلًا»، داعيًا الله عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يلهم أسرته ومحبيه الصبر والسلوان.
و قال الدكتور محمد الضوينى، وكيل الأزهر الشريف: « راح الدكتور عبد الحليم ضحية فى المكان الذى عاد إليه طالبًا الأمان والسكينة بين أهله وأحبته.»
وأضاف الضويني: «وإذ نحتسب الفقيد عند رب رحيم كريم، فإننا نوجِّه نداءً من القلب إلى أهلنا فى صعيد مصر، إلى أصحاب المروءة والنخوة وأخلاق الكبار: بأى ذنب قُتل؟ إلى متى تستمر هذه العصبيات الجاهلية التى لا تحصد إلا الأرواح؟ إلى متى يبقى الغضب حاجزًا يحجب نور الرحمة والعقل؟»
وختم وكيل الأزهر تصريحه مؤكدًا: «إن الأزهر الشريف يناشد العقلاء والحكماء فى كل ربوع الوطن، وبالأخص فى صعيده العريق، أن يتكاتفوا لاجتثاث هذه العادة الجاهلية من جذورها، وأن يحتكم الجميع إلى شريعة الإسلام السمحة وإلى القانون، حفاظًا على الأمن والاستقرار، وصونًا لأرواح شبابنا من الهلاك المجانى».
ومن جانبه نعى مرصد الأزهر لمكافحة التطرف الباحث عبد الحليم قائلًا:»لقد فقدنا اليوم زميلًا كريمًا وباحثًا متميزًا، كان نموذجًا فى الإخلاص والاجتهاد، وقد ترك بصمة واضحة فى مختلف الأنشطة والفعاليات التى شارك فيها خلال فترة عمله بالمرصد، حيث أسهم بشكل فعّال فى جهود التوعية بمخاطر الفكر المتطرف، لا سيما لدى فئة الشباب والناشئة. كان رحمه الله صاحب فكر مستنير وعطاء علمى متواصل، وستظل ذكراه حاضرة فى وجدان زملائه ومحبيه».
عادة جاهلية
قال الدكتور عويضة عثمان، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، أن ما يسمى بـ«الثأر» هو من عادات الجاهلية التى لا تمت بصلة للإسلام، قائلًا: «الثأر ده عادة جاهلية، وجرائم الثأر أزهقت أرواح شباب كتير، لو كل واحد قرر ياخد بتاره بإيده، الدنيا هتبقى فوضى، وده مش من الدين فى شيء».
وشدد عثمان على تحكيم العقل والاحتكام إلى القانون والشرع، مؤكدًا أن الصبر فى مثل هذه المصائب العظيمة جزاؤه كبير عند الله، وأن العدل لا يأتى باليد، بل من خلال المؤسسات القضائية والعدل الإلهى.
القصاص عدلٌ..
أما عن الخلط بين الثأر والقصاص فقد وضح مفتى الجمهورية السابق الدكتور شوقى إبراهيم علام أن الفرق بين القصاص المشروع والثأر الجاهلى هو كالفرق بين العدل والفوضى، وبين حكم الله وهو أرحم الراحمين، وبين هوى النفس إذا غلبها الغضب والحزن.
حيث أوضح فضيلته أن القصاص حق شرعى جعله الله وسيلة لتحقيق العدل والردع وضمان حقوق المظلومين، وقد راعى فيه الشرع مشاعر أهل المقتول، فلم يفرض عليهم العفو فرضًا، بل جعله بابًا للفضل، وأباح لهم القصاص أو الدية أو العفو، تخفيفًا ورحمةً بالأمة، مستشهدًا بقوله تعالى: )فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ }البقرة: 178]، وقوله: )ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾.
وأشار مفتى الجمهورية إلى أن ما يعرف بـ»أخذ الثأر» هو تقليد جاهلى مرفوض شرعًا، لأنه يتعدى حدود العدل، ويؤدى غالبًا إلى قتل أبرياء لا ذنب لهم، ويفتح أبواب الدم بلا ضوابط، ويُحيى العصبية القبلية المذمومة التى جاء الإسلام ليقضى عليها، لافتًا إلى أن الله تعالى قال: )وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ }الأنعام: 164]، وهى قاعدة عدلية راسخة.
وأضاف فضيلته: «نحن بحاجة إلى وعى دينى ومجتمعى يُفرّق بين القصاص الذى يقوم به ولى الأمر أو القضاء وفقًا للإجراءات الشرعية والقانونية، وبين الثأر الذى يمثل صورة من صور الاعتداء المحرم والافتيات على سلطة الدولة»، مؤكدًا أن تنفيذ العقوبات من اختصاص السلطة القضائية وحدها، ولا يجوز للأفراد أو العائلات أن ينتزعوا هذا الحق لأن فى ذلك فوضى مدمرة وظلم بيّن.
وختم فضيلة المفتى تصريحه بالتأكيد على أن الصبر والعفو من شيم المؤمنين، وقد قال تعالى: )وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ }النحل: 126]، مشددًا على أن العدل لا يُبنى على الظلم، والحق لا يُستعاد بالباطل، وأن الدم لا يُغسل بدم، بل بالقضاء العادل والحكم الرشيد.
فى النهاية، رغم الألم الذى أحدثه هذا الفقد، تبقى رسالة الدكتور عبد الحليم حيّة فى عقول طلابه وزملائه، وفى كلمات من دافعوا عن رسالته، ويبقى الأمل أن تنتهى فصول هذه المأساة عند حدودها، وألا يُسفك المزيد من الدماء تحت راية وهمية اسمها الثأر.
