بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

تأملات فى رحلة الحج

خلق الله الإنسان وكلفه بالشرائع والأحكام، وجعلها صلة تربط العبد بربه، والإنسان تعتريه عوائد إنسانية اعتاد عليها، وهذه العوائد تتملك النفس البشرية وتجعلها تنصرف شيئاً فشيئاً عن فهم حكمة الله من خلقه له، وإذا لم يفطن الإنسان لحكمة الله فى ذلك، غلبته عاداته على عبادته، وعجزت العبادة عن أن توصل إليه أثراً من آثار الهداية.

ولقد شرع الله العبادات ليقطع عن العبد إلف العادة بلذة العبادة، ورتب له العبادات على نحو يملأ نفسه وصلاً برب العالمين، وينقطع بها عن مألوفاته وعوائده، ويجعل ذلك الأثر موصولاً بالنفس دائماً، فشرع خمس صلوات فى اليوم والليلة، وشرع الجمعة تتكرر كل أسبوع، وشرع الصيام شهراً يتكرر كل سنة، ثم شرع الحج مرة فى العمر.

والحج يمثل القمة فى إعادة صياغة النفس البشرية وتربيتها وتقريبها من منهج الهداية الربانية، بل يحدث تغييراً كبيراً وانقلاباً عنيفاً فى نفس الإنسان من داخله، ويقطع عنه مألوفات بصره وقلبه، ويعيده إلى فطرته من جديد، بل ويخرجه إلى طور من أطوار تربية النفس على المنهج الإلهى.

ذلك أن المولى تبارك وتعالى أمرك بأن تطوف حول البيت سبعاً وهو حجر، وأمرك أن تستلم الحجر الأسود وأن تقبله وهو حجر، وأن ترجم الشاخص الذى نصب للإشارة إلى إبليس فى رمى الجمرات وهو حجر، وأن تسعى بين جبلى الصفا والمروة سبعاً وهما حجران، بهذا أمرك الحق سبحانه باحترام وتعظيم جنس من الجماد بعد أن كان جنس الجماد طوال عمرك خادماً لك مسخراً لحياتك، تعظم جنساً من الجماد لا تتم عبادة الحج ولا يقبل منك النسك، ولا يرضى عنك ربك إلا بذلك، فتقبل وتعظم حجراً هنا، وترجم وتهين حجراً هناك، ليعلمك بأن الحجرية ليس لها دخل فى الموضوع، فلا الحجر يعظم لأنه حجر، ولا الحجر يهان لأنه حجر، إنما الشأن أن الله تعالى أمرك بأن تقبل هنا، وأن ترجم هناك، وبيان ذلك أن الله تعالى قد اصطفى من خلقه صفوة أوجب عليك أن تعظمها، وإن كانت مهينة فى نظرك.

واختار الله بيته الحرام واصطفاه من جنس الجماد، حيث جعله أحجاراً مبنىة، فعظم بقعته وجعلها بيتاً له فى الأرض إزاء بيته الأعظم فى السماء، بل غرس محبته فى القلوب استجابة لدعوة خليله إبراهيم عليه السلام: {فاجعل أفئدة من الناس تهوی إلیهم} «سورة إبراهيم: ٣٧»، ولو قال إبراهيم عليه السلام: رب اجعل أفئدة الناس تهوى إليهم، بإسقاط حرف الجر (من)، لحج بيت الله تعالى اليهود والنصارى والناس أجمعون.

كما جعله مثابة وأمناً وقبلة للناس: {وإذ جعلنا البیت مثابة للناس وأمنا} «سورة البقرة: ١٢٥»)، وهذا من خصائص البيت الحرام، فأعز قدره، وفخم شأنه، وأنزل عليه بركاته، فهو أول بيت وضع للناس فى الأرض، خصه بذاته وأضافه لاسمه، فهو اختياره سبحانه، حيث اختار أحب بقاع الأرض إليه، وجعلها بيته المعظم، ثم نثر فضله وتفضله على بقية بقاع الأرض حتى اصطفى منها بقية المساجد، وجعلها منقادةً وتابعةً لبيته الأول الذى اصطفاه لنفسه، فبقية المساجد بيوت الله باختيار خلق الله لها، وجعل الله البيت الحرام قبلة لبيوته التى اختارها خلقه، وموضع عبادته ونظره، ومهبط رحمته ومغفرته وعفوه، ومنزل ملائكته: {ومن دخله كان ءامنا}

«سورة آل عمران: ٩٧»، فعليك أن تحفظ لحجيج بيت الله أمنهم، وأن تقيهم شر نفسك، وتكف عنهم لسانك وأذاك.

وانبثقت منه أنوار الهداية الأولى، وانتشرت فى الدنيا بأكملها عندما بعث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من مكة.

وهناك الأمن الباطنى الذى يفيضه الله تعالى على قلوب الحجيج، حيث ينظر إلى قلوبهم فيفيض عليهم رحمته وسكينته.

وكما جعل بيته المعظم فى السماء تطوف حوله الملائكة وتحفه، جعلك تطوف ببيته الحرام فى الأرض، حتى تستحضر وأنت فى الأرض مشهد تعظيم الملائكة لقدس ربك فى السماء، فأصبحت روحك مقبلة منصبة على تقديس الشعائر التى أمرك الله أن تعظمها، مع استحضار أنك تطوف وتسعى لحضرة الجلال: {ذلك ومن یعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} «سورة الحج: ٣٢»

أمرك سبحانه أن تعظم جنساً من النبات، فحرم عليك أن تقطع شجر الحرم، أو أن تقطع نبته.

وأمرك سبحانه بأن تعظم جنساً من الحيوان، وحجك لا يكاد يقبل إلا إذا راعيت جنس الحيوان واحترمته، فنهاك عن صيد البر ما دمت محرماً، فإن اعتديت عليه بالصيد– والصيد حلال– وجب عليك كفارة تعدل ما اعتديت عليه من جنس الحيوان، ولا يقبل حجك إلا إذا أديتها، قال تعالى:

{یأیها الذین آمنوا لا تقتلوا الصید وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم یحكم به ذوا عدل منكم هدیا بـلغ الكعبة أو كفـرة طعام مسـكین أو عدل ذ لك صیاما} «سورة المائـدة: ٩٥».

وأباح لك الصيد فى الحل، ونهاك عنه فى الحرم، وأباح لك بعض عوائد من مناقشة الخلق من حولك والجدال معهم بالتى هى أحسن، إلا فى وقت الحج، قال سبحانه:

(الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج).

وإن نهاك عن الرفث والفسوق والجدال فى الحج مع حجاج بيت الله الحرام ومع أهل مكة، فكيف بما هو أعظم من الجدال من المماحكة وسفك الدماء؟

هكذا أعلمك الله تبارك وتعالى فى ذلك المشهد العظيم أنك رجعت محترماً لكل أجناس الوجود من حولك، مستشعراً أنك متواضع لعظمة ربك، تعظم ما عظمه الله، وتهين ما أهانه الله، وترفع شأن ما رفع الله شأنه، بل تمتنع عما أحل الله لك فى غير حالة الإحرام، حتى ترجع نفسك إلى إلف التكليف.

هذا المنهج الإلهى التربوى العجيب، الذى تثوب وتنقلب فيه العوائد الإنسانية إلى الفطرة الأولى، محترماً ومعظماً لأجناس الوجود، منخلعاً عن عوائدك ومألوفاتك، فترى نعم الله تعالى عليك، لتعلم أنك من حيث أنت إنسان لا قيمة لك فى ذاتك، إلا بتحقيق العبودية لله، واحترام ما سخر الله لك من الأكوان، ترجع إلى مقام العبودية الحقة لتمتثل لله فيما أمر، وتخرج عن مكانتك التى تبوأتها بعوائدك الدنيوية، حتى ظننت لوهلة– لشدة استحكام الإلف والعادة عندك– أنك سىد متصرف فى الأكوان، تفعل فيها ما تشاء وتختار، فإذا بالمولى سبحانه يعلمك بأنك لن تصدق فى العبادة، ولن تكون عبداً ربانياً حتى تتنازل عن عوائدك ودرجتك التى كنت تتبوأها من قبل، وحتى ترجع إلى التواضع أمام ما عظم الله تعالى وأعلى، وإن كان مهيناً فى ذاته أو فى نظرك.

هذه الملامح تنغرس فى نفس من شهد المشاهد، مقرونة بما خلعه الله على البيت المعظم من الجلال والجمال والكمال والعظمة والمهابة.

تذكر وأنت تؤدى المناسك وتتنقل بين المشاعر أنك لن تستطيع– وإن اجتهدت– أن ترقى إلى أداء حق الله تعالى كما أمر وأراد، على الوجه الذى يليق به سبحانه.

وإن من رعونات النفس أن ترضى عن طاعتها، ولأجل هذا قال سبحانه:

{ثم أفیضوا من حیث أفاض اًلناس واًستغفروا اًلله إن اًلله غفور رحیم}

«سورة البقرة: ١٩٩»

والإفاضة نهاية مناسك الحج، والحج عبادة عظمى، والاستغفار بعدها لما لعله وقع منك من تقصير فى أدائك للمناسك، وتقوم مقاماً تقمع فيه النفس عن أن تعجب بما أدت من عبادة، أو أن تقتنع بما جاءت به من طاعة، لتعود نفسك التواضع لرب العالمين، وتكسر نفسك، وتصرف عنها ما يسرى إليها من صلف وتيه وعجب بما أدت من طاعة، حتى ترجع إلى ديارك مزوداً بعزيمة ماضية على أن تستصحب عبادة الله تعالى والخضوع له ما حييت، لتتمتع بقربه، وتنتقل من دار التكليف إلى دار التشريف.

 

وزير الأوقاف