كلمات
هيباتيا
"الحقيقة لا تتغير، سواء صدقها معظم الناس أو لم يصدقوها".
هذه مقولة "هيباتيا" التي أجمع معظم الفلاسفة والمؤرخين على حقيقة واحدة ومؤكدة لا و لم يُنكرها أحد، وهي أنها أول و أعظم عالمة رياضيات و فلك في التاريخ .. كانت فيلسوفة عظيمة و حكيمة، و برغم جمالها الفتّان إلا أنها أَمضت عمرها عذراء عزباء بإرادتها .. و عندما سألوها عن سبب رفضها للزواج، قالت “إنها متزوجة بالعلم و الحقيقة".
وُلدت "هيباتيا" بالإسكندرية في أواخر القرن الثالث الميلادي، والدها هو عالم الرياضيات و الفلك و الفيلسوف الشهير"ثيون السكندري" الذي كان أستاذًا بجامعة الإسكندرية.
و كما هو حال معظم الفلاسفة و العلماء و المفكرين ، بدأت "هيباتيا" ترتقي بعقلها و روحها في رحلتها للبحث عن الحقيقة .. و هنا اصطدمت برفض الكنيسة أو الحكم الكهنوتي في ذلك العصر الذي كان يتسم بالجهل و التطرف الديني ، و الذي ظهر جليًا في اضطهادهم للفلاسفة و العلماء عبر العصور ، و اتهامهم بالكفر تمهيدًا للتخلص منهم بأبشع أنواع القتل و التعذيب.
فبدأ التفكير في اغتيال "هيباتيا" التي التفّ حولها جمهور من مختلف فئات الشعب المصري ، سواء من المثقفين أو العوام ، و الذي كان من الصعب إِحكام السيطرة الكهنوتية عليه كونه شعبًا ينحدر من ثقافة الحضارة المصرية "الإدريسية" العظيمة التي قامت على منهج العلم و الإيمان .. فأقبلوا بشغف للتعرف على ذلك الفكر التنويري الذي نشرته "هيباتيا" و الذي كان يدعو إلى البحث والتدبر و نبذ الجهل و الخرافات.
و بالفعل ، و على غرار جميع ضحايا الإرهاب الديني ، كان مقتلها مأساويًا على يد جموع من المسيحيين ، حيث تم جرها من شعرها وهي عائدة إلى منزلها بعد أن انتهت من إحدى ندواتها في مكتبة الإسكندرية ، وتم سحلها في شوارع المدينة و سلخ جلدها بالأصداف ثم إحراقها.
و وفقًا للمصادر التاريخية ، ماتت "هيباتيا" في عام 415 م تقريبًا، وكان موتها بهذه الوحشية إيذانًا بنهاية عصر التنوير الفكري و التقدم العلمي الذي شهدته الإسكندرية على مدى 750 عامًا .. و تم تداول و تدوين قصتها على أيدي الكُتّاب و المؤرخين خلال القرون الخامس و السابع و حتى القرن العاشر الميلادي.
خلال هذه الفترة ، و تحديدًا في منتصف القرن السادس و بداية القرن السابع الميلادي ، جاء الفتح الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص ، و تم فتح مصر بسقوط الإسكندرية عام 642 م .. و بذلك انتهى عصر الاضطهاد الديني في مصر و كل الدول التي خضعت لحكم الخلافة الإسلامية الراشدة التي احتضنت العلماء من كل الأطياف و ازدهرَ العلمُ تحت رايتها ، فسبقت عصرها و كان لها الفضل في محو مقولة "ويل لمن سبق عقله زمانه".
و تذكُر بعضُ المصادر أن في القرن الثامن الميلادي ، أي بعد مرور ما يقرب من أربعة قرون على قصة "هيباتيا" السكندرية شهيدة العلم ، ظهرت "نسخة" مشابهة تمامًا و هي قصة القديسة "كاثرين" .. ويُقال كانت أيضًا فيلسوفة و عالمة و أنها وُلدت كذلك في الإسكندرية و استشهدت في أواخر القرن الرابع الميلادي ، و بعد ذلك تم اكتشاف رفات جثمانها في القرن التاسع الميلادي .. و لكن الاختلاف الجوهري بين الروايتين أن القديسة "كاثرين" تعرضت للاضطهاد الروماني لأنها رفضت محاولات تحويلها من العقيدة المسيحية إلى الوثنية ، على عكس قصة "هيباتيا" التي عانت من اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية لأنها خرجت عن تعاليم مذهبهم.
أما الحقيقة المؤكدة و المتفق عليها تاريخيًا ، أن "مصر" هي المصدر الأول لكل العلوم و الفلسفات التي خرجت من رحم أم الدنيا بعد أن تتلمذَ رواد هذه العلوم على أيدي كهنة و علماء جامعة (أُون) ، أول و أقدم جامعة عرفتها البشرية و التي أنشأها المصريون العظماء منذ آلاف السنين، و درس فيها أفلاطون نفسه لمدة 13 عامًا.
و هنا أستطيع أن أقول :
إن الحقيقة دائمًا تجدٌ طريقَها إلى النّور مهما حاول البعضُ إخفاءَها .