قطوف
الشجرة الأخيرة
من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع..
هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.
"سمية عبدالمنعم"

رأيتُ جدّى صباح اليوم فى كامل بهائه لدرجةٍ لم أعهده بها طوال حياته، فآخر مرة شاهدته، كان قلقًا بشأنى حتى كاد يبكى لولا وقاره الموسوم به، زارنى فى مساء ممطر كأنما حلَّ من سفر، لابسًا ثوبه الطويل وطاقيته البيضاوين.
لكنه بدا نظيفا، كأنه لم يخط خطوة واحدة على الأرض التى حولها المطر إلى كُتلٍ من الطين، تنظر إليَّ زوجتى ثم تعود لتكمل تأملها فى هذا الوجه النضر ذى الهيبة ورائحة الخير تشع من قسماته.. بينما أنا منغمس فى نشوة لقائه، فقد غاب كثيرًا لدرجة أنى افتقدته، تُحوّل عينيها بينى وبينه جدّى الذى ما زال واقفا ويحمل بيده شنطة من الجلد الصناعى، بدت عليها الفخامة تجلب الطمع، ترى من أيّ بلدٍ جاء بهذا الخير؟ هل قُطع النهر عنَّا فقط، أم أن البلاد على طول النهر طالها الجفاف؟
أبصرت تساؤلات عينى زوجتى اللتين غلفتهما الدهشة، من هذا وكيف مشى إلى هنا فى هذه المنطقة غير الآمنة بالمرة؟ نعم، فقد حل الجفاف فى النهر الذى يمرُّ بطول بلدتنا مبتسمًا ثم يلقى علينا تحية الحياة وعلى أرضنا وحيواناتنا، وما بقى سوى خزانات أسمنتية داخل كل بيت تجمع فيها مياه الأمطار، يمتصون المياه، يعاملونها معاملة الذهب، وانتشر اللصوص وقطاع الطرق، فقط.
يختبئون وقت خروج الجموع ساعة الأكل من الشجرة، تلك الشجرة التى بقيت فى البلدة لم يمسسها الجدب، كأنما مسح على جذعها نبى أو ولى له على الله قسَمٌ، يانعةً وخضراءَ أبدًا، لا ينقص ورقها، كلما قطع منها ورقة نبت مكانها عشر، الحكومة تصف الناس بأولادهم لتناول الغداء، لكل فردٍ أكلة مشبعة من أوراق هذه الشجرة المباركة، طابور دائم على مدار الساعة، ثم يعودون إلى بيوتهم لا يخرجون إلا حين الوجبة الأخرى، ربما نظر الله إليهم وأنزل عليهم غيثا بين الفينة والأخرى، فيخزنون بعض المياه للشرب والاغتسال ما تسبب فى بقاء نسلهم حتى الآن، ثم يتناوب رجال الشرطة على حراسة الشجرة، فيأتى كل فرد بشنطة غذائه وشرابه فلا يتجرأ أحد على النظر إليها.
قبل أن يجلس جدّي، قبَّلَ ابنى وابنتى وجلس ليفتح الشنطة، انتفضت حاسة الشم لتصقع ذاكرتنا، صرخنا بصوت واحد: ياه! انقضضنا على الشنطة خطفناها من يد الجد قبل أن يكمل فتحها، هو يتأملنا وابتسامته لم تبرح مكانها، إنه طعام مطبوخ، أحفظ هذه الرائحة جيدًا، اممم.. أشتاق لهذا الطعم، إنه لحم خروف، أحبك يا جدى التهمت أنا وزوجتى كل ما وجدناه داخل الشنطة، ثم أخبرنا بأنه جاء من مدينة عملاقة زاخرة بالطعام وكل أنواع الشراب، والمياه وفيرة لدرجة أنهم يملكون مسابح للعناية بالحيوانات الضالة، لكن الخروج من هذه المدينة محظور وعقوبته القتل، سألته: كيف جئت يا جدى؟
أجابنى: ستعلم حينما تستيقظ!
أذكر اسم ابنتى الرضيعة وردة، لا أتذكر اسم ابنى لكنى حفظت صورهما، ثم طلب منى أن أخلع معطفى وأذهب لأحضر له شيئًا من الدار القديمة، ضلَّلتُ الشرطة وسلكت طريق المدينة العملاقة، تركت معطفى والآن بلا غطاء فى زنزانة حديدية معزولة، عامان مرا على جسدى النحيل هنا، تهتز الجدران من طقطقة أسنانى، أصبت بالحمى، أشعر بوخز الحقن فى وريدى، أفتح عينى فأرى قطع الظلام تتسابق إلى بصرى، كل صباح، أصيحُ فى الحرس مغمض العينين: لن أقصَّ رؤياى على أحدٍ أبدًا.