«تبرعات» المحليات.. جباية بالإكراه
تشهد محافظة الدقهلية، فى السنوات الأخيرة تزايد شكاوى المواطنين والمهندسين من الممارسات غير القانونية التى تقوم بها الوحدات المحلية، بإلزامهم بدفع «تبرعات» ضخمة مقابل إنهاء إجراءات تراخيص البناء، وهى مبالغ يتم تحصيلها دون سند رسمى أو رقابة قانونية، فيما توصف هذه الجبايات بـ«الإجبارية»، وتفوق أضعاف الرسوم القانونية المفروضة على المواطنين.
ورغم امتلاك محافظة الدقهلية أكبر عدد من الصناديق الخاصة على مستوى الجمهورية، بهدف تمويل المشروعات الخدمية خارج نطاق الموازنة العامة، إلا أن تلك الصناديق لم تف بالغرض، بل تحولت إلى عبء إضافى على كاهل المواطن، ومع إعادة فتح تراخيص البناء بعد سنوات من التجميد، فوجئ المواطنون بإلزامهم بدفع «تبرعات» وصلت إلى عشرات الآلاف من الجنيهات لإتمام إجراءاتهم داخل الوحدات المحلية، دون إيصالات أو أوراق رسمية.
عدد من المهندسين وأصحاب المكاتب الهندسية كشفوا أن بعض رؤساء الأحياء يشترطون على طالب الترخيص دفع مبالغ «تبرعية» تتراوح بين 30 و100 ألف جنيه حسب المنطقة والجهة المنفذة، مؤكدين أن هذه المبالغ تُفرض قسرًا على المواطن، وتُسدد دون مستند قانونى، وهو ما يخالف القوانين المنظمة لتحصيل الرسوم والاشتراطات المالية الخاصة بالبناء.
ونصت المادة 43 من قانون المالية العامة الموحد رقم 6 لسنة 2022 على أنه «لا يجوز لأى جهة إدارية أو موظفيها قبول تبرعات أو إعانات أو هبات لصالح الجهة إلا بعد الحصول على الموافقات اللازمة طبقًا للقانون»، كما حظرت المادة 13 من قرار رئيس الوزراء رقم 1769 لسنة 2020 فتح حسابات خارج البنك المركزى للصناديق الخاصة إلا بترخيص رسمى، مؤكدة ضرورة إخطار وزارة المالية والجهاز المركزى للمحاسبات بأى تجاوزات أو وقائع اختلاس أو سرقة.
ورغم هذا الإطار القانونى الصارم، إلا أن الواقع داخل بعض وحدات الدقهلية المحلية يشهد تجاوزات صارخة، حيث يتم التحصيل دون إيصالات رسمية، تحت دعاوى تمويل معدات النظافة أو تحسين الشوارع، وسط غياب تام للرقابة.
وفى فبراير 2023 أصدرت الجمعية العمومية لقسمى الفتوى والتشريع بمجلس الدولة فتوى ملزمة، قضت ببطلان تحصيل مديرية التموين بالبحيرة مبلغ 50 قرشًا كـ«معونة شتاء» على كل بطاقة تموينية، معتبرة أن فرض تبرعات على متلقى الخدمة دون سند قانونى يُعد إكراهًا، وهو سلوك يخالف الدستور.
وسبق ذلك فتوى أخرى قضت ببطلان رسوم تحسين الطرق المفروضة من أربع محافظات، لكونها صادرة بتعليمات غير قانونية وغير دستورية.
الدكتور أيمن سويلم، صاحب مكتب هندسى بالدقهلية، أوضح أنه يُجبر على دفع تبرعات تتراوح بين 30 و150 ألف جنيه مقابل الحصول على «الصلاحية التخطيطية»، وهو إجراء تمهيدى قبل تقديم طلب الترخيص.

وأضاف أن بعد اعتماد الترخيص، تُفرض مبالغ إضافية تبدأ من 30 إلى 100 ألف جنيه، رغم أن المواطن يكون قد سدد بالفعل كافة الرسوم القانونية المنصوص عليها بالقانون 119 لسنة 2008، والتى تشمل رسوم الترخيص، ورسوم الخدمات الصحية، وتأمين الكاميرات، والدمغة، وتنمية الموارد، ورسوم التحسين، وغيرها.
وأكد سويلم، أنه خاطب نائب محافظ الدقهلية أكثر من مرة دون أى استجابة، ما دفعه لتوثيق المخالفات ومطالبة المواطنين بدفع تلك المبالغ بأنفسهم، لغياب إيصالات رسمية تثبت عملية التحصيل.
وأكد المهندس الاستشارى عصام زغلول، أنه أقام دعوى قضائية ضد محافظ الدقهلية ورئيس حى شرق المنصورة أمام القضاء الإدارى، للطعن على تحصيل 85 ألف جنيه رسوم نظافة ورصف خارج القانون فى أحد تراخيص البناء، وصفًا هذه التبرعات بأنها «فلكية»، تفوق 10 أضعاف الرسوم الرسمية المقررة.
وأشار إلى أن تحصيل رسوم نظافة على التراخيص، رغم فرضها سابقًا على فواتير الكهرباء، يعد مخالفة مزدوجة، لعدم وجود بند قانونى يُجيز ذلك، مؤكدًا أنه تقدم بمذكرة رسمية لإلغاء تلك الرسوم العشوائية.

تُعد الصناديق الخاصة بمحافظة الدقهلية من أهم موارد التمويل الذاتى، وتشمل خدمات الصحة، والإسكان الاقتصادى، والطرق، والتنمية المحلية، وشبكات المرافق، وتم التصديق مؤخرًا على الحساب الختامى للعام المالى 2023/2024، وموازنة العام 2024/2025، لتستمر فى دعم الخدمات المقدمة للمواطنين.
ورغم خضوع هذه الصناديق للرقابة من الجهاز المركزى للمحاسبات، فإن العديد من التقارير السابقة كشفت مخالفات مالية، منها صرف مكافآت خيالية بلغت 600 ألف جنيه فى عام 1998، واختلاسات ومخالفات مالية فى أوائل الألفية تخطت 13 مليون جنيه، ما أثار جدلًا واسعًا.

بعد كل ما أثير حول تجاوزات الصناديق القانونية، يبقى السؤال : ما مصير التبرعات التى تُحصَّل بالإكراه من المواطنين تحت مسميات متعددة دون إيصال رسمى أو رقابة؟ وكيف يمكن تقنين عمليات التحصيل العشوائية التى فتحت الباب للتلاعب وتفاوت المبالغ بشكل جزافى بحسب تقدير الموظف أو المسؤول المحلي؟.
الوضع الراهن يؤكد أن «تبرعات» الوحدات المحلية خرجت عن نطاق القانون وتحولت إلى باب خلفى لتحصيل الأموال، بعيدًا عن أعين الرقابة، وهو ما يتطلب تدخلًا مباشرًا من رئاسة الوزراء ووزارتى التنمية المحلية والمالية، لوقف هذه التجاوزات وإعادة الأمور إلى مسارها القانونى.