ذاكرة «سوريا» فى يد الموساد

أثار إعلان رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، عن نجاح جهاز «الموساد» فى استعادة أرشيف العميل الشهير إيلى كوهين من سوريا، موجة واسعة من التساؤلات والجدل على منصات التواصل السورية، وسط صمت رسمى من السلطات السورية حتى الآن. ووفقاً لبيان صادر عن مكتب نتنياهو، فإن جهاز «الموساد»، بالتعاون مع جهاز استخبارات شريك لم يكشف عن هويته، نفذ «عملية سرية معقدة» داخل سوريا، تمكن خلالها من جلب نحو 2500 وثيقة وصورة ومقتنيات شخصية تعود لكوهين، الذى أعدم فى دمشق عام 1965 بعد أن اعتبر من أخطر الجواسيس الإسرائيليين الذين اخترقوا البنية السياسية والعسكرية فى العالم العربى.
وأضاف البيان أن الوثائق والمقتنيات التى نقلت من سوريا كانت محتجزة لسنوات طويلة فى سرية تامة لدى أجهزة الأمن السورية منذ لحظة اعتقال كوهين وحتى تنفيذ حكم الإعدام فيه. وشملت المواد المستعادة مفاتيح شقته فى دمشق، جوازات سفر مزورة، ورسائل عائلية، وصوراً تجمعه مع كبار المسئولين السوريين فى الستينيات، بالإضافة إلى وثائق حول مهام استخباراتية كلفه بها «الموساد»، تتعلق بجمع معلومات عن مواقع عسكرية سورية، خصوصاً فى منطقة القنيطرة جنوب البلاد.
وفى مشهد احتفالى رمزى، سلم نتنياهو عدداً من المقتنيات الأصلية إلى أرملة كوهين، ناديا كوهين، خلال لقاء جمعهما، من بينها وصيته المكتوبة بخط يده قبل ساعات من إعدامه فى 18 مايو 1965.
ومع انتشار الخبر، انطلقت موجة من الجدل على وسائل التواصل السورية، حيث انشغل الناشطون والمدونون فى تحليل ملابسات العملية. وتساءل كثيرون عن الطريقة التى تمكن بها الموساد من اختراق ما تبقى من أجهزة الأمن السورية والوصول إلى أرشيف يفترض أنه محفوظ فى واحد من أكثر الملفات سرية. حيث رجح بعض المتابعين أن يكون الأرشيف قد وصل إلى تل أبيب منذ سنوات بعيدة، إما فى عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد أو فى عهد ابنه بشار الأسد، معتبرين أن توقيت الإعلان الإسرائيلى لا يخلو من أبعاد سياسية ترتبط بتغير الأوضاع داخل سوريا وسقوط النظام الحالى أو تفككه الداخلى.
وذهب آخرون إلى فرضية أن الأرشيف بيع لإسرائيل مقابل مكاسب سرية، مرجحين أن ضابطاً كبيراً فى مخابرات النظام السورى السابق هو من قام ببيع المقتنيات، فى ظل الانهيارات الأمنية المتتالية التى عصفت بجهاز الدولة السورية خلال السنوات الأخيرة.
وأشار فريق آخر إلى أن إسرائيل قد تكون حصلت على الأرشيف منذ عام 2018، تزامناً مع إعلانها استعادة ساعة كوهين الشهيرة، لكنها اختارت الآن إعادة تقديم القصة بصفته «إنجازاً جديداً»، ضمن سياق سياسى يوظف الشخصية الأسطورية لكوهين داخل الوعى الصهيونى.
فيما يرى مراقبون أن استعادة أرشيف كوهين يتجاوز البعد الاستخباراتى، ويحمل دلالات سياسية ورمزية بالغة الأهمية. إذ يعد كوهين أيقونة فى التاريخ الإسرائيلى، وواحداً من أبرز رموز العبقرية التجسسية حسب الرواية الصهيونية. وقد بقيت قضيته حاضرة فى وجدان المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لعقود، كما أنتجت عنه أفلام ومسلسلات، بينها مسلسل «الجاسوس» الذى جسد فيه ساشا بارون كوهين شخصية العميل.
وكان كوهين قد وصل إلى دمشق مطلع الستينيات، متخفياً باسم «كامل أمين ثابت»، وتمكن من التسلل إلى أوساط النخبة العسكرية والسياسية السورية، قبل أن يكتشف أمره عبر إشارات بث إذاعى، ويعدم شنقاً بعد محاكمة عسكرية.
وتروى عن كوهين حادثة شهيرة خلال محاكمته، حين خاطب القضاة قائلاً إن «أنصاره من الضباط السوريين لن يسمحوا بإعدامه»، فى إشارة إلى تغلغله العميق داخل أجهزة الدولة السورية. ويذكر أن أحد أول القرارات التى اتخذها حافظ الأسد بعد انقلابه كان اعتقال اللواء صلاح الدين الضللى، رئيس المحكمة التى أصدرت حكم الإعدام على كوهين، وسجنه لسنوات، ما أضاف بعداً غامضاً على علاقة الأسد بملف كوهين.
استغل البيان الإسرائيلى المناسبة للتذكير بوضع الجولان المحتل، حيث تحتل إسرائيل منذ عام 1967 غالبية مساحة الهضبة السورية، وتعتبرها رسمياً ضمن سيادتها، رغم عدم اعتراف دولى بذلك.
ومع انهيار مؤسسات الدولة السورية خلال الحرب الأهلية، استفادت إسرائيل من حالة الفراغ الأمنى، وأعادت احتلال المنطقة العازلة المنصوص عليها فى اتفاق فك الاشتباك عام 1974، الذى كان يضبط التوتر العسكرى بين الطرفين. كما أعلنت إسرائيل سيطرتها على «جبل الشيخ» الاستراتيجى، الذى يقع على المثلث الحدودى بين سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة، ويبعد نحو 35 كيلو متراً فقط عن العاصمة دمشق.
حتى اللحظة، لم تصدر السلطات السورية أى بيان رسمى تعقيباً على الإعلان الإسرائيلى. ويزيد هذا الصمت من حالة الغموض، خصوصاً مع تعمد إسرائيل عدم آلافصاح عن تفاصيل العملية أو هوية الشريك الاستخباراتى الذى لعب دوراً أساسياً فيها، ما يفتح الباب واسعاً أمام الشكوك والافتراضات، سواء من حيث توقيت العملية أو الجهة التى سهلت إخراج الأرشيف من عمق الأراضى السورية.
وفى ظل تعقد المشهد السورى سياسياً وأمنياً، تطرح هذه الحادثة تساؤلات كبرى حول ما تبقى من سيادة الدولة السورية، وحول مدى اختراق القوى الخارجية لمؤسساتها، خاصة فى ظل التدهور الاقتصادى والانقسام الميدانى بين قوى محلية ودولية متنافسة.