مصر المكان والمكانة
فى الوقت الذى غاب فيه عدد من أصحاب الفخامة والجلالة والسمو، عن القمة العربية الـ 34 التى عقدت فى بغداد السبت الماضى، جاءت كلمة رئيس مصر شافية وافية، معبرة عن وجدان الشعوب العربية، جاءت كلمة الرئيس قاطعة لا تقبل التأويل، مؤكدةً موقف مصر الراسخ والحاسم والداعم للقضية الفلسطينية، وما حملته قمة القاهرة 4 مارس 2025، من رسائل واضحة للعالم، بأن إنهاء الاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها «القدس الشرقية»، هو السبيل الأوحد، للخروج من دوامة العنف، التى ما زالت تعصف بالمنطقة، مهددة استقرار شعوبها كافة.. بلا استثناء.
شدد الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال كلمته على المرحلة الخطيرة التى تمر بها القضية الفلسطينية، والجرائم الممنهجة والممارسات الوحشية التى يتعرض لها الشعب الفلسطينى، التى تهدف إلى طمسه وإبادته، ودفع أهل قطاع غزة للتهجير ومغادرته قسرًا تحت أهوال الحرب والآلة الإسرائيلية التى لم تبق حجرًا على حجر، ولم ترحم طفلًا أو شيخًا، تلك الآلة التى اتخذت من التجويع سلاحًا، ومن التدمير نهجًا، فى تحدٍّ صارخ لكل القوانين والأعراف الدولية .
ثم جاء السيد الرئيس بالقول الفصل، الذى لا يريد الاحتلال وأتباعه الاعتراف به، حينما قال: حتى لو نجحت إسرائيل، فى إبرام اتفاقيات تطبيع مع جميع الدول العربية، فإن السلام الدائم والعادل والشامل فى الشرق الأوسط، سيظل بعيد المنال، ما لم تقم الدولة الفلسطينية، وفق قرارات الشرعية الدولية، ثم تناول الرئيس التحديات المصيرية التى تواجه الأمة العربية، من المنعطف الذى يمر به السودان ويهدد وحدته واستقراره، وما تمر به سوريا، وما يحدث فى ليبيا، وما يتعرض له لبنان واليمن، والصومال.
جاءت كلمة الرئيس لترد على من يردد جهلًا أوعمدًا، بأن مصر فقدت مكانتها ودورها القيادى، وأن هذا الدور لم يعد موجودًا، وصار لا محل له من الإعراب، بعد أن فرضت المستجدات السياسية والمتغيرات الاقتصادية، واقعًا جديدًا، لا بد من الاعتراف به، والرضوخ إليه، دون غرور، أو التمسك بحبال من تاريخ ولَّى وانتهى! ومن هنا يبدأ الرد على كل واهم، وراغب، ومحرض يريد أن ينال من تلك المكانة.
فى كتابه «مكانة مصر عبر العصور الحديثة»، يتناول المؤرخ الدكتور «يونان لبيب رزق» تلك المسألة باستفاضة، ويُفند بشرح وافٍ هذا التوهم الذى أصاب بعض الصبية، كأنه حى بيننا، يرى ويسمع ما يدور وما يجرى، وفى الفصل الأخير من هذا الكتاب، يصف الدكتور يونان لبيب، العقد الأخير من القرن العشرين بأنه كان عقد «حصار المكانة المصرية »، والذى شارك فيه فرقاء عديدون، بعضهم بالوعى، على رأسهم الولايات المتحدة واسرائيل، وكانا أصحاب مصلحة أكيدة فى تهميش دور مصر فى المنطقة بحكم العلاقة العكسية بين مصالح الأولى ووجود الثانية، وبين تعاظم المكانة المصرية، خاصة أن لحكومة واشنطن سياسة قديمة تؤكدها الوثائق المنشورة منذ عهد الرئيس «أيزنهاور»، وهى سياسة تقوم على تقزيم الدور المصرى فى المنطقة، لأن مصالحهم تقتضى ذلك، فدور مصر فى قيادة الأمة يعنى ببساطة تحقيق المصالح العربية وليس مصالح دول الغرب فيها، خصوصًا عندما تتفق هذه السياسات مع تأمين إسرائيل ومع رغبات بعض الحكام العرب.
وبعضهم شارك بغير وعى فى هذا الحصار، والكلام لا يزال للدكتور يونان لبيب، سواء من بعض دول النفط التى رأى حكامها أن الثروات التى تفجرت عليهم من باطن الأرض، تقدم الفرصة الذهبية لصنع مكانة لم تكن تحلم بها، وقد نسى هؤلاء إحدى المقولات الشهيرة: ليس بالمال وحده يُصنع الإنسان، وهو ما ينطبق على الحكومات أيضًا، فالمال مثلما يأتى يمكن أن يذهب، خاصة إذا تم إنفاقه فى غير محله، وكان لكل منهم «من شارك بوعى أو بغير وعي» وسائله فى هذا الحصار.
وبعد مرور عقدين تقريبًا على ما ذكره الدكتور يونان لبيب، نجد الأمر يتكرر فى ظل وضع إقليمى مضطرب، تستغل فيه الولايات المتحدة حالة التفكك والانقسام العربى، لفرض واقع جديد يخدم مصالحها ويلبي رغبات الأجندة الصهيونية، خاصة مع محاولة بعض الصبية حصار مكانة مصر ورغبتهم فى التقليل من دورها عمدًا أو جهلًا!
أخيرًا: يتناسى هؤلاء المحرضون، والراغبون، وأصحاب المناهج والأجندات التى تريد زحزحة القاهرة عن دورها العربى والإقليمى، أو النيل من مكانة مصر، وحصارها، أن المستجدات السياسية والاقتصادية لا تصنع وضعًا دائمًا، ولكنها تقود إلى وضع مؤقت ينتهى بانتهائه، إذ يبقى قبلها وبعدها حقائق الجغرافيا والتاريخ، كما يقول الدكتور يونان لبيب.
الخلاصة: الظروف المعقدة والاستثنائية التى تمر بها المنطقة، تتطلب منا جميعًا، كما قال رئيس مصر خلال كلمته فى قمة بغداد : وقفة موحدة، وإرادة لا تلين.. وأن نكون على قلب رجل واحد، قولًا وفعلًا.. حفاظا على أمن أوطاننا، وصونًا لحقوق ومقدرات شعوبنا الأبية.
حفظ الله مصر من كل سوء