نعومي كلاين، ومقاومة الصدمة
من الوهلة الأولى، قد يبدو الربط بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والكاتبة الكندية نعومي كلاين، الناقدة الشرسة للرأسمالية النيوليبرالية، أمرًا غريبًا بعيدًا عن المنطق. فكلاين، ممثلة اليسار التقدمي، تسعى إلى إصلاح النظام العالمي من خلال تحقيق مزيد من العدالة الاجتماعية والحرية والاستدامة. أما ترامب، فيمثّل اليمين الشعبوي الذي يركز على القومية وحماية الاقتصاد الأمريكي دون الاهتمام بالقضايا العالمية الأوسع. هكذا، ترسم كلاين ملامح هذا التناقض في عملها الشهير "لا ليست كافية: مقاومة سياسات الصدمة التى يتبعها ترامب، والفوز بالعالم الذي نحتاجه".
نعومي كلاين، في مختلف مؤلفاتها، تعرض تحليلًا نقديًا للأثر السلبي للعولمة النيوليبرالية، حيث ترى أن المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قد أسهمت في إنتاج الأزمات الاقتصادية، وتعميق الفقر، وزيادة حدة التفاوت الاجتماعي. بالنسبة لها، تمثل هذه المؤسسات أدوات للهيمنة الاقتصادية التي تقوض سيادة الدول وتزيد من التفاوت بين الأغنياء والفقراء على مستوى العالم. وتدعو كلاين إلى تفكيك هذه المؤسسات وإعادة بناء النظام الاقتصادي العالمي بشكل يعزز العدالة الاجتماعية، مع التركيز على الاستدامة وحماية البيئة.
بتحليل مواز، تؤكد كلاين أن ترامب لم يدخل معترك السياسة كشخصٍ غريبٍ يُدعى "دخيلاً" أي لا يلتزم بالقواعد. بل دخلها ملتزمًا بمجموعة قواعد مختلفة تماماً، قواعد بناء العلامة التجارية "The Rules of Branding". ووفقًا لهذه القواعد، لا يشترط أن تكون جيداً أو مقنعاً بشكل موضوعي؛ يكفي أن تكون ماهراً ومتسقاً مع العلامة التجارية التي أنشأتها. إنه يصنع الفكرة أولًا، بغض النظر عن قيمتها، ثم يقوم بتسويقها، بناءً على خبرته بطبيعة العملاء. والنتيجة، أنه نجح في بيع فكرته، لأننا في كل مرة نقول فيها كلمة "ترامب"، حتى لو كنا نقولها بشكل سلبي، فإننا نقوم بتسويقه.
وتلخص كلاين المحاورالأربعة لسياسات الصدمة. أولا: تسارع إدارة ترامب في استغلال الأزمات القائمة، وتحاول تصنيع صدمات جديدة (فضائح سياسية، هجمات على المؤسسات الشهيرة، أخبار زائفة) لخلق حالة من الفوضى والتشتت. ثانيا: يبدأ التنفيذ السريع للسياسات الرأسمالية المرجوة في أعقاب هذه الصدمات مباشرة، وبينما يترنح الجمهور ويركز على الأزمة وآثارها على حياته، تدفع الإدارة بسياساتها الرأسمالية الجديدة (مثل طرد الموظفين الفيدراليين، والتحكم في وكالات حماية موظفي الخدمة المدنية، وتخفيضات الضرائب للأثرياء، وتفكيك البرامج الاجتماعية) بوتيرة سريعة، مما يحد من فرص مراجعة أسسها، وتدقيق بياناتها.
ثالثا: تأتي هذه السياسات بشكل ساحق ومربك، حيث يتم تصميم العديد من الصدمات والأزمات المستمرة لإغراق الجمهور، مما يجعل من الصعب تنظيم الأفكار بطريقة منهجية، أو حتى فهم الآثار طويلة المدى للسياسات التي يتم تنفيذها بشكل كامل. رابعا: في إطار هذه الوضعية (تقصد كلاين الأزمة، ومخاوف المجتمع، والسياسات الجديدة) تختل الأولويات، فيبدأ الخلط بين مصلحة الفرد والجماعة، وتحت تأثير الصخب السياسي والإعلامي، يتم تمرير معايير جديدة للسلوك السياسي، تهدف منها الإدارة إلى إزالة حساسية الجمهور تجاه ما كان يُعتبر غير مقبول في السابق.
هذا النقد التحليلي العميق من كلاين لسياسات ترامب يعكس صراعًا حول تصور كل منهما للعالم الذي نعيش فيه، والهدف من تغييره. إذ يشير هذا التناقض إلى انقسام عالمي أكبر بين رؤية تقدمية تستهدف إعادة هيكلة النظام الاقتصادي بما يخدم مصالح كل الدول العالم، ورؤية قومية ضيقة تركز على حماية المصالح الوطنية، دون النظر إلى التحديات العالمية المشتركة. وكما تخلص كلاين، فإن هذا التوجه الأحادي يختزل الدور الأمريكي الخارجي إلى مجرد علامة تجارية، قابلة للبيع. يقول الفيلسوف اليوناني القديم إبيقور " لا تُفسد ما لديك، بالرغبة فيما لا تملكه ".