بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

بعضهم تجاوز الـ60 عامًا

عجائز.. على الرصيف

بوابة الوفد الإلكترونية

«خلف الله»: أعيش وحيدًا بين الكتب

«جمال»: وفاة زوجتى دفعنى لبيع المناديل

«أم عايدة»: أولادى ماتوا.. وعمرى ضاع فى بيع الخضار

 

خلف ضجيج السيارات وزحمة الأرصفة، تختبئ وجوه منهكة أفنت سنوات عمرها فى الكدح.. لم تجد من الحياة سوى تعبها.. تجاوزوا الستين لكن الزمن ما زال يجبرهم على الركض خلف لقمة العيش، بعدما انفضّ عنهم الأهل، وانحنى الجسد، وبقيت الكرامة وحدها واقفة.

تتناثر الكتب القديمة والمستعملة، يقف خلف الله، الرجل الستينى الذى امتهن بيع الكتب منذ أكثر من 30 عامًا. يقول: «الكتب كانت ملاذى من هموم الحياة، والآن أصبحت مصدر رزقي».. رغم تقدم العمر، إلا أن «خلف الله» لا يزال يفرش كتبه على الرصيف يوميًا، يتبادل الحديث مع المارة، ويقدم لهم نصائح حول الكتب التى قد تثير اهتمامهم.

«خلف الله»، شاهد على تاريخ طويل من القراءة والثقافة فى مصر. يضيف: «منذ أن كنت صغيرًا، وأنا أحب القراءة. الآن، أعيش بين الكتب، وأعتبرها أصدقائي»، ورغم التحديات التى يواجهها، مثل قلة الإقبال على شراء الكتب وارتفاع أسعار الإيجارات، إلا أن خلف الله يظل متمسكًا بمهنته، مؤمنًا بأنها جزء من هويته.

 

جمال: بائع المناديل فى إشارات المرور

فى إحدى إشارات المرور بوسط القاهرة، يقف جمال، الرجل السبعينى الذى امتهن بيع المناديل الورقية للمارة، يرتدى جلبابًا بسيطًا، ويحمل فى يده علبة صغيرة تحتوى على مناديل، يتنقل بها بين السيارات المتوقفة. يقول: «الناس فى الزحمة يحتاجون للمناديل، وأنا هنا لأقدم لهم ما يحتاجون».

«جمال»، فقد زوجته منذ سنوات، يعيش بمفرده فى شقة صغيرة فى حى شعبى. يضيف: «أولادى تزوجوا، وكل واحد منهم مشغول بحياته. أنا هنا لأكسب رزقى وأشعر أننى مفيد». رغم تقدم عمره، إلا أن جمال لا يزال يذهب يوميًا إلى إشارات المرور، يبيع المناديل، ويتبادل الحديث مع السائقين، مؤمنًا أن العمل هو سر الحياة.

 

دروس من حياة هؤلاء الأبطال

حياة خلف الله وجمال يعجز عنها الكثير من الشباب، دروس فى الصبر والإرادة، رغم تقدم العمر، إلا أن كليهما رفض الاستسلام للظروف، ويواصل العمل بكل جدية، يعتبر أن العمل ليس فقط مصدر رزق، بل هو أيضًا وسيلة للحفاظ على الكرامة والشعور بالانتماء.

خلف الله، الذى قضى سنوات طويلة بين الكتب، يرى أن القراءة ليست مجرد هواية، بل هى وسيلة لفهم العالم والتواصل مع الآخرين. يقول: «الكتاب هو نافذة على العالم، ومن خلاله يمكننا أن نعيش تجارب لم نكن لنعيشها».

أما جمال، الذى يبيع المناديل فى إشارات المرور، فيرى أن العمل البسيط يمكن أن يكون له تأثير كبير. يضيف: «قد تبدو مهمتى بسيطة، لكننى أساعد الناس فى لحظات الحاجة، وهذا يعطينى شعورًا بالرضا».

«رمضان صبري»، 67 سنة، قضى عمره فى مهنة البناء، يقول بصوت متعب، ويداه مليئتان بالتشققات القديمة: «أنا بنيت بيوت لناس كتير، بس ما قدرتش أبنى لنفسى أوضة أنام فيها مرتاح». 

بدأ العمل وهو طفل، يحمل الطوب والزلط، وكان يحلم إنه يوم يبقى «مقاول كبير»، لكن الحلم ضاع وسط أنقاض الحياة، وفى الأربعين من عمره، سقط من طابق ثالث أثناء عمله، وأصيب بكسر فى العمود الفقرى. تعافى جزئيًا، لكنه لم يعد كما كان. رغم ذلك، لم يتوقف عن العمل، لأن «العيال لازم تاكل». الآن، يعمل فقط فى «تشوين» مواد البناء البسيطة، ويعيش فى حجرة بالإيجار فى أطراف الجيزة، يأكل من يد الحظ إن فتحت له، وينام إن أغمض له الزمن عينيه.

 

أم عايدة.. «بائعة الخضار التى فقدت الجميع»

فى أحد الأسواق الشعبية بالشرابية، تفترش أم عايدة الأرض، تبيع بضع كيلوجرامات من الخيار والطماطم. عمرها 73 سنة، تقول بوجه مرهق وعيون دامعة: «ولادى التلاتة ماتوا.. واحد فى حادثة، واحد اتخنق فى السجن، والبنت ماتت وهى بتولد». 

بعد وفاة زوجها، اضطرت للخروج للعمل رغم سنها، ولا تملك أى دخل ثابت، وتخاف أن تمرض، لأن «مافيش اللى يجيب دوا»، كل يوم تصحو مع أذان الفجر، وتذهب لسوق العبور تشترى «بضاعتها» بالديْن، وتعود لتبيعها، وأحيانًا ما تبيعش حاجة خالص.

 

عم سيد.. «المكفوف الذى يقود الحياة بالعصا»

عم سيد، 62 سنة، فقد بصره من عشرين سنة بسبب مرض السكرى، لكن ده ما وقّفوش. بيقف كل يوم عند محطة المترو يبيع أقلام وولاعات صغيرة.

يقول بابتسامة مؤلمة: «أنا مش شايف الناس، بس حاسس بنظرتهم.. فى اللى بيشفق، وفى اللى بيحتقر، وفى اللى بيتجاهلنى تمامًا».

رغم فقدانه للبصر، إلا أنه يعيش بمفرده، ويعتمد على نفسه تمامًا. عايش فى أوضة صغيرة، وعلى معاش بسيط لا يكفى دواءه، ومع ذلك، يرفض التسول:»أنا مش شحات، أنا بشتغل على قدّى.»

 

الحاج عبدالعاطى.. «بواب العمارات.. وذاكرة النسيان»

فى حى راقٍ بالمعادى، يسكن فى بدروم عمارة كـ»بواب»، الحاج عبدالعاطى، 70 سنة. لا أحد يعرف اسمه الكامل، فقط «الريس».

كان زمانه فلاح فى قريته، وجاء للقاهرة على أمل يحسّن وضعه. خدم فى عشرات البيوت، نظّف سلالم، حمل أنابيب، وسقى الزرع، ورعى أولاد غيره، لكن أولاده ما قدرش يعلمهم.يقول:»أنا طلعت عيال الناس.. وولادى ماحدش طلعهم.»

زوجته توفيت من سنوات، وعنده ابن فى السجن، وبنت مطلقة تعيش معه. كل شهر، ينتظر «بقشيش» السكان، ولا يطلب أكثر، فقط دعوة «ربنا يكرمكم».

فى شارع ضيق خلف مستشفى حكومى بحلوان، يجلس عم شوقى على كرسى بلاستيكى مكسور عند بوابة ورشة تصليح سيارات، يمسك بيده عصا صغيرة ويتابع حركة الشارع بعينٍ متعبة.

شوقى، 68 سنة، يعمل حارسًا ليليًا منذ 20 عامًا. كان يعمل فى أحد مصانع الحديد والصلب، حتى أغلق المصنع وتم تسريحه دون معاش.

«كنت أفكر إنى بعد الستين هقعد مع أحفادى، أشتريلهم حلويات وأحكى حواديت.. دلوقتى أنا اللى مستنى حد يدينى لقمة الصبح.»

يبيت ليله على «كرتونة» داخل الورشة، ولا يأخذ راحة منذ سنوات، فقط ينام حين تسمح له الضوضاء، أو حين يخذله التعب. لا يملك بطاقة تأمين صحى، ويعانى من ضغط وسكر، لكنه يخشى الذهاب لأى مستشفى لأنه «مافيش اللى يدفع الحساب».

 

أم سميحة.. يدٌ فى العجين ويدٌ على القلب

فى منطقة إمبابة، حيث البيوت المتلاصقة والحوارى الضيقة، تفوح رائحة الفطير البلدى من نافذة منزل صغير فى الطابق الأرضى.

أم سميحة، 64 عامًا، أرملة منذ أكثر من 15 عامًا، تعمل يوميًا فى خبز الفطائر وبيعها للجيران والمارة، وقالت «محدش بيسأل دلوقتى الست الكبيرة ترتاح؟! طالما لسه بتتحرك، يبقى لازم تشتغل». 

تستيقظ قبل الفجر، تعجن بيديها اللتين لم تعودا قادرتين على التحمل، وتُوقد الفرن الصغير المصنوع من الطين، وتظل تبيع حتى منتصف النهار. لا وقت لديها للراحة، فهى المسؤولة عن إعالة ابنتها المطلقة وحفيد مريض بالصرع، ورغم تعبها، لا تفارق الابتسامة وجهها، وتقول: «أنا تعبت، آه، بس ما بكرهش العيش اللى بعمله.. هو اللى بيطمنى إنى لسه نافعة». 

 

صابر.. خطواتٌ بلا بصر وكرامة تمشى وحدها

فى محطة رمسيس، يتجول صابر، رجل ضرير يبلغ من العمر 66 عامًا، يبيع كتيبات صغيرة دينية وأدعية على الأرصفة. لا يطلب شيئًا من أحد، فقط يمد يده بكتيب ويقول: «ده صدقة جارية.. خد واقرَ ليا الفاتحة.»

صابر فقد بصره وهو فى الأربعين بعد إصابته بجلطة، عصاه بيضاء، لكنها شاهدة على سواد أيامه، ووجهه بلا نظرة، لكنه مليء بالتعب، والأمل، لم يكن لديه أى دعم أسرى أو ضمان اجتماعى، يعيش فى غرفة فوق سطح أحد البيوت القديمة فى شبرا، يذهب يوميًا لمحطة القطار منذ الصباح، يتنقل بحذر بين العربات، أحيانًا ينهره الأمن، وأحيانًا يشترى منه أحدهم، وقال: «أنا مش شحات.. أنا بشتغل. يمكن الشغل بسيط، بس أحسن من إن حد يمد لى إيده بفلوس وأنا ما تعبتش فيهم.»

          

«9 ساعات على الرصيف.. والستر من عند الله»

تجلس «أم محمد» على قطعة كرتون مهترئة، وأمامها بعض الخضروات المرتّبة بعناية كأنها تعرض كنوزًا لا بضائع. فى عيونها تعب السنين، وفى يديها آثار كفاحٍ لا يليز ن

تبدأ يومها من الفجر، قبل أن تشرق الشمس، حين تذهب إلى السوق لجلب البضاعة. «بقالى أكتر من 15 سنة ببيع هنا، وكل يوم ببدأ الساعة 6 الصبح وبقعد لحد 3 أو 4 العصر.. يعنى 9 ساعات وقوف وقعدة فى الشارع، بس الحمد لله، بنسترزق»، تقولها بابتسامة تعب، لا تزال تحتفظ ببعض الأمل.

بين أصابعها المتشققة، تمرّ حبات الطماطم والخيار، تختار الجيد منها وتعرضه على قطعة من الخيش فوق الرصيف. ليس لها محل، ولا تملك مظلة تحميها من حر الصيف أو برد الشتاء. «دى شغلتى.. الرصيف هو المحل بتاعى، وربنا هو اللى بيسترها».

رغم أنها أم لثلاثة أولاد، لم تنتظر أن يعولها أحد. عملت لتطعم وتعلّم وتداوى. «جوزى مات من 10 سنين، وساعتها كان لازم أكون الأب والأم فى نفس الوقت. اشتغلت أى حاجة.. نضفت بيوت، غسلت سلالم، وفى الآخر لقيت الخضار أسترلي».

لا تستخدم «أم محمد» وسائل التواصل، ولا تعرف شيئًا عن العالم الافتراضى، لكنها تقرأ وجوه الناس جيدًا، وتعرف من النظرة إن كان الزبون معه ما يكفى أو بحاجة لخصم دون أن يطلب. «الناس غلابة، وأنا منهم.. أوقات ببيع بالخسارة بس مش مهم، المهم يلاقوا اللى ياكلوه».

حين تسألها: هل تفكرين فى التقاعد؟ تضحك وتقول: «هو إحنا ورانا معاش؟ طول ما فيا نفس، هافضل أشتغل.. الشغل عمره ما كان عيب».

بين حبات البطاطس والبصل، وبين صوت السيارات المزعج ودخان الشارع، تقف «أم محمد» شامخة، بائعة بسيطة لكنها بطلة يومية، تُلخّص فى ملامحها قصة صبر وأمومة وصمود