أسرار تراجع النمو السكانى
العوامل النفسية والاقتصادية وراء تأجيل الإنجاب لدى الأسر الحديثة
المشكلة السكنية في مصر تحت السيطرة لاول مره منذ سنوات
ارتفاع نسب الطلاق مؤشر مهم للتراجع
بورسيعيد تحتل المرتبه الاولي في تنظيم الاسره
عبد الغفار تحسن الخصائص السكانية في العمل والتعليم والخدمات
مواطنون الظروف الاقتصادية اجبرتنا علي ترشيد النسل
فى مجتمع لطالما ارتبطت فيه مفاهيم الإنجاب بـ«البركة» و«العزوة» و«الاستقرار الأسرى»، تشهد مصر فى مطلع عام 2025 تحوّلًا هادئًا لكنه لافت فى توجهات الأسرة المصرية تجاه واحدة من أكثر القضايا حساسية وتأثيرًا: الإنجاب. فبعد سنوات طويلة من التحذيرات الرسمية والدراسات البحثية والدعوات المجتمعية لضبط معدلات الزيادة السكانية، تسجل البلاد للمرة الأولى انخفاضًا ملحوظًا فى معدل النمو السكانى، بنسبة بلغت 1,34%، وهو الرقم الأدنى مقارنةً بالعامين الماضيين، ما يفتح الباب واسعًا للنقاش حول ما إذا كان هذا التراجع يعكس نجاحًا استراتيجيًا للحكومة، أم أنه مجرد نتاج طبيعى لضغوط اقتصادية متراكمة أثقلت كاهل المواطن.
المثير فى الأمر أن هذا التراجع لم يأتِ فى سياق حملات تنظيم الأسرة فقط، بل تزامن مع تحولات اقتصادية ومجتمعية وثقافية أكثر تعقيدًا، أعادت تشكيل رؤية كثير من الأزواج الجدد لمفهوم تكوين الأسرة. فالشباب اليوم، كما تكشف شهاداتهم، أصبحوا يتعاملون مع قرار الإنجاب بوصفه مشروعًا استثماريًا يحتاج إلى دراسة جدوى دقيقة: تكاليف متابعة الحمل، ومصاريف الولادة، وأسعار الألبان والحفاضات، وتحديات التعليم والرعاية، كل ذلك يدفعهم لإعادة النظر فى قرارات كانت تُتخذ سابقًا ببساطة، بل وتلقائية.
وفى الوقت الذى تعلن فيه الدولة توسعها فى برامج المشورة الأسرية، وتطوير خدمات الصحة الإنجابية، وتوفير وسائل تنظيم الأسرة بشكل مجانى، يواكب الشارع هذا الحراك بتحوّل تدريجى فى مفاهيمه وسلوكياته، مدفوعًا ليس فقط بالوعى، بل بالضغوط. شهادات كثيرة تكشف عن قلق متزايد بين الأزواج من تحمّل أعباء طفل جديد وسط أزمات اقتصادية خانقة، بينما يذهب آخرون إلى إعادة تقييم الفكرة من الأساس، مدفوعين بثقافات عالمية جديدة تنتشر كالنار فى الهشيم عبر وسائل التواصل الاجتماعى.
أدنى معدل نمو سكاني
أعلن الدكتور خالد عبدالغفار، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الصحة والسكان، أن مصر سجلت أدنى معدل نمو سكانى خلال الربع الأول من عام 2025، مقارنةً بالفترة نفسها فى عامى 2024 و2023، مؤكدًا أن هذا التراجع يعكس نجاح السياسات الحكومية فى ضبط النمو السكانى وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وأوضح عبدالغفار أن عدد السكان ارتفع من 104,4 مليون نسمة فى يناير 2023 إلى 107,2 مليون نسمة فى يناير 2025، بمعدل نمو سنوى بلغ 1,34%، مقارنة بـ1,4% فى 2024 و1,6% فى 2023. وأضاف أن هذا التراجع تزامن مع تحسن المؤشرات الاقتصادية، حيث بلغ معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى 3,5% فى الربع الأول من العام المالى 2024/2025، مقابل 2,7% فى نفس الفترة من العام السابق.
وأشار الوزير إلى تحسن الخصائص السكانية، لاسيما فى مجالات مشاركة المرأة فى العمل والتعليم، وتطوير خدمات الرعاية الصحية الأولية وتنظيم الأسرة، وأوضح أن نسبة تغطية مراكز الرعاية بالأطباء وصلت إلى 80%، كما تم توفير وسائل تنظيم الأسرة مجانًا فى مختلف منافذ تقديم الخدمة، إلى جانب استخدام هذه الوسائل بعد الولادة مباشرة بنسبة 80%.
وأكد عبدالغفار توسع التغطية بمراكز المشورة الأسرية إلى 70%، بدعم من كوادر طبية مدربة تقدم المشورة النفسية والصحية للأسر منذ ما قبل الزواج وحتى مرحلة الطفولة المبكرة، فى إطار المبادرات الرئاسية مثل »بداية» و»الألف يوم الذهبية».
من جانبها، أوضحت الدكتورة عبلة الألفى، نائب وزير الصحة لشئون الأسرة، أن محافظة بورسعيد سجلت أدنى معدل نمو سكانى بنسبة 0،61%، تليها القاهرة بنسبة 0،86%، مشيرة إلى تحسن نسبى فى محافظات الصعيد مثل سوهاج، التى بلغ معدل نموها 1،97%.
وأكدت الألفى أن هذا التراجع يعكس تحولًا ثقافيًا حقيقيًا وليس مجرد انعكاس لظروف اقتصادية، مشيدة بالدور الحيوى الذى يلعبه المجلس القومى للسكان فى الرقابة والحوكمة، بالإضافة إلى الحملات الإعلامية والبرامج السكانية المدروسة.
وأعلنت الألفى عن إطلاق حملة إعلامية لمناهضة زواج الأطفال، وبرنامج قومى للوقاية من التقزم وسوء التغذية، استكمالًا لجهود الدولة فى تحسين الخصائص السكانية والارتقاء بجودة الحياة.
استطلعت الوفد آراء عدد من المواطنين عما إذا كان انخفاض نسبة المواليد بسبب التوعية بمخاطر الزيادة السكانية أم للظروف الاقتصادية.
يقول حسام (32 عامًا، شاب حديث الزواج): بعد الزواج، كنت أعتقد أن الإنجاب سيكون خطوة طبيعية، لكن عندما بدأت فى حساب تكاليف المتابعة الطبية والولادة، وجدت أن الأمر يحتاج إلى ميزانية خاصة. لذا قررت أنا وزوجتى الانتظار عامًا أو عامين حتى نكون مستعدين ماليًا.
ويتابع أحمد (35 عامًا، أب لطفل عمره 6 أشهر): طفلى الصغير يستهلك عبوتين أو ثلاث من الحفاضات أسبوعيًا، وكل عبوة يتجاوز سعرها 250 جنيهًا! هذا بخلاف الألبان الصناعية التى تصل إلى أكثر من 500 جنيه شهريًا.
فى الماضى، كان إنجاب الأطفال أمرًا عاديًا، لكن الآن كل شىء مكلف للغاية.
أما محمود (29 عامًا، متزوج منذ عام) فيقول: فكرة الإنجاب مباشرة بعد الزواج أصبحت صعبة. لا أريد أن أُنجِب طفلًا ثم أجد نفسى غير قادر على توفير متطلباته الأساسية. لذلك قررت مع زوجتى الانتظار حتى نحصل على دخل ثابت يكفى لتغطية المصاريف.
وتضيف نهى (30 عامًا، متزوجة منذ ثلاث سنوات): عندما تزوجت، كنت أرغب فى إنجاب طفل فورًا، لكن مع حساب التكاليف، أدركت أننى بحاجة إلى بعض الوقت حتى أكون مستعدة ماديًا ونفسيًا. لا أريد أن أضع طفلى فى ظروف صعبة بسبب التسرع فى اتخاذ القرار.
ويقول عماد (40 عامًا، أب لطفلين): عندما تزوجت قبل 10 سنوات، لم يكن لدينا هذا القلق بشأن نفقات الأطفال، لكن اليوم تغيرت الأمور، أعرف الكثير من الأزواج الذين يؤجلون الإنجاب ليس لأنهم لا يريدون أطفالًا، بل لأنهم غير قادرين على تحمل تكاليفهم.
نجاح الجهود
أكد حسين عبد العزيز، مستشار رئيس الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، وجود انخفاض ملحوظ فى عدد المواليد مقارنة بالأعوام السابقة، لافتا إلى أنه إذا استمرت معدلات الزيادة السكانية الحالية على نفس الوتيرة فهذا يعكس نجاح الجهود المبذولة فى ضبط معدلات النمو السكانى.
وأشار عبد العزيز إلى أنه ولأول مرة منذ سنوات، انخفض عدد المواليد السنوى إلى أقل من مليونى مولود، ما يعكس تحولًا تدريجيًا نحو تنظيم الأسرة، فى إطار السياسات السكانية التى تتبناها الدولة.
وعلى مستوى التوزيع الجغرافى، أكد عبدالعزيز أن القاهرة احتلت المركز الأول كأكثر المحافظات سكانًا، بواقع 10,4 مليون نسمة، تلتها الجيزة بـ 9,7 مليون نسمة، ثم الشرقية بـ 8,1 مليون نسمة.
وأوضح أن هذا التراجع النسبى فى معدل الزيادة السكانية يعكس نجاح الخطط الحكومية فى مواجهة الزيادة السكانية غير المنضبطة، وهو ما يتماشى مع رؤية مصر 2030 لتحقيق تنمية مستدامة وتحسين جودة الحياة للمواطنين. ومع استمرار العمل على مبادرات الصحة الإنجابية والتوعية، يبدو أن مصر بدأت تخطو خطوات ملموسة نحو تحقيق معدلات نمو سكانى أكثر استقرارًا.
وكشف الدكتور عاطف الشيتانى، المقرر السابق للمجلس القومى للسكان، عن تسجيل مصر انخفاضًا فى معدلات المواليد لأول مرة منذ 15 عامًا، واصفًا ذلك بالإنجاز غير المسبوق الذى يستحق الاحتفاء، بعد عقود من معدلات الإنجاب المرتفعة التى شكلت تحديًا كبيرًا أمام خطط التنمية. وأوضح أن مصر شهدت منذ عام 2010 ارتفاعًا ملحوظًا فى معدلات الولادة، ما ضاعف الضغوط على موارد الدولة والخدمات الأساسية.
وأوضح الشيتانى أن هذا التراجع يأتى كنتيجة مباشرة للجهود الحثيثة التى تبذلها الدولة منذ تولى الرئيس عبد الفتاح السيسى المسئولية فى عام 2014، حيث وضعت القضية السكانية على رأس الأولويات. وأضاف أن الرئيس حرص على إثارة هذا الملف فى مختلف الاجتماعات والمؤتمرات، مشددًا على ضرورة اتخاذ إجراءات حاسمة للحد من معدلات الإنجاب المتزايدة.
وأكد أن السنوات العشر الماضية شهدت تركيزًا غير مسبوق من قبل الحكومة المصرية لضبط النمو السكانى، باعتباره أحد التحديات الكبرى التى تواجه التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مشيرًا إلى أن استمرار هذه الجهود سيسهم فى تحقيق معدلات نمو أكثر توازنًا، وتحسين جودة الحياة للمواطنين على المدى الطويل.
مفهوم جديد
صرّحت د. منى حمدى، استشارى الصحة النفسية والإرشاد الأسرى، أن انخفاض معدلات المواليد وفقًا للإحصائيات الأخيرة قد لا يكون بالضرورة مؤشرًا على تغيير جذرى فى القيم الثقافية والمجتمعية تجاه فكرة الإنجاب، بل هو انعكاس مباشر للظروف الاقتصادية والاجتماعية التى باتت تؤثر بشكل متزايد على قرارات تكوين الأسرة.
وأوضحت أن تراجع معدلات الزواج وارتفاع نسب الطلاق فى السنوات الأخيرة جعل الكثير من الشباب المتزوجين حديثًا أكثر حذرًا فى اتخاذ قرار الإنجاب، حيث أصبح هناك خوف من عدم استقرار الزواج أو وقوع الطلاق، مما يدفعهم إلى تأجيل الإنجاب حتى يتأكدوا من استقرار حياتهم الزوجية. كما أن هناك تحولًا فى تفكير الأجيال الجديدة، خاصة فى البيئات المدنية وبين الفئات الأكثر تعليمًا، حيث يفضل بعض الأزواج فى البداية الاستمتاع بالحياة الزوجية دون أعباء ومسؤوليات، وتأجيل الإنجاب لحين الاستعداد النفسى والمادى الكامل.
وأضافت د. منى أن هذه التوجهات ليست منتشرة بنفس الدرجة فى المناطق الريفية أو بين الفئات الأقل تعليمًا، حيث لا تزال فكرة »العزوة» والإنجاب كوسيلة لتعزيز الأمن الاقتصادى والاجتماعى سائدة، فالطبقات الأكثر وعيًا وتعليمًا أصبحت أكثر ميلًا لتنظيم الأسرة بناءً على قناعات مختلفة عن الأجيال السابقة، التى كانت ترى الإنجاب ضرورة مطلقة.
وأكدت أن هذه التغيرات لا تعنى بالضرورة تحولًا ثقافيًا عميقًا فى المجتمع تجاه الإنجاب، وإنما هى أشبه بـ »طفرة» فى التفكير، ناتجة عن تأثيرات العصر الحديث، مثل السوشيال ميديا وانتشار الأفكار التحررية التى تتحدى بعض المفاهيم التقليدية. كما أن هناك شريحة من الشباب تتبنى أفكارًا أكثر راديكالية، مثل رفض الإنجاب بالكامل لأسباب فلسفية أو بيئية أو حتى اقتصادية.
وأشارت إلى أن الظروف الاقتصادية تلعب دورًا حاسمًا فى هذا الاتجاه، حيث يواجه الشباب صعوبات فى تأسيس أسر بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة والسكن ومتطلبات الزواج، مما يؤدى إلى تأخر سن الزواج وانخفاض معدلات الزيجات، وبالتالى انخفاض أعداد المواليد. كما أن من يتزوجون يجدون أنفسهم أمام تحديات اقتصادية تدفعهم إلى تأجيل الإنجاب أو تقليل عدد الأطفال للحفاظ على مستوى معيشى مستقر.
كما نوهت د. منى إلى أن بعض الشباب بدأوا يتساءلون عن مدى أحقية أى شخص فى إنجاب الأطفال دون التفكير فى مدى قدرته على تربيتهم بشكل سليم، سواء من الناحية المادية أو النفسية، وهو مفهوم جديد نسبيًا فى المجتمع. هذه الأفكار تعكس انتشار فلسفات عالمية مثل «البقاء للأصلح»، التى تدعو إلى ضرورة أن يكون الإنجاب مسؤولية وليس مجرد تقليد اجتماعى.
وختمت د. منى حديثها بالتأكيد على أن هذه التغيرات فى التفكير تستدعى تعزيز التوعية والتوجيه النفسى والاجتماعى، مع ضرورة دعم المقبلين على الزواج ببرامج تأهيلية تساعدهم على اتخاذ قرارات مدروسة بشأن الإنجاب، بما يضمن استقرار الأسرة وتحقيق توازن بين النمو السكانى والنمو الاقتصادى.

