بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

الزاد

"السيسى" - "ماكرون" خلعا ثوب السياسة

الدول الكبرى تدرك دائمًا أن التاريخ ليس مجرد ماضٍ يُروى، بل هو رصيد من القوة الناعمة، وكنز من التأثير الممتد عبر الأجيال. لذا لم يكن مستغربًا أن يصطحب الرئيس عبد الفتاح السيسي نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في جولة غير تقليدية، بعيدًا عن أروقة السياسة الرسمية، إلى قلب القاهرة القديمة، حيث تفوح "ريحة مصر" من كل ركن، وتتكثف الذاكرة في كل زقاق وبيت وحارة.

ما جرى لم يكن مجرّد زيارة رسمية، بل كان مشهدًا إنسانيًا يحمل أبعادًا رمزية وثقافية عميقة. في أحياء مثل الحسين وشارع المعز وخان الخليلي، حيث تختلط روائح العطارة والمسك والبخور، وحيث تنبض الحياة بين الأزقة، مشى الرئيسان وسط الناس، يتبادلان الابتسامات والنقاشات، في حضرة تاريخ لا يزال حيًّا، نابضًا، متجسدًا في كل طوبة من بيوت القاهرة الفاطمية.

هذه الأماكن لا تُقدم فقط كمعالم سياحية، بل كمنصات حقيقية لسرد رواية مصر، تلك التي تبدأ من الحضارة الفرعونية، وتمتد عبر العصور الإسلامية والقبطية والعثمانية، لتتجسد في ملامح العمارة والأسواق والفنون، ولتظل شاهدة على عبقرية المكان والإنسان.

في لحظة استثنائية، جلس الرئيسان في "قهوة نجيب محفوظ"، المقهى الذي يحمل اسم أديب نوبل، ويقع في واحد من أكثر الشوارع رمزية وعمقًا. وعلى بعد خطوات منهما، بدا تمثال صغير لأم كلثوم كأنه يحرس المشهد، في إشارة إلى أن مصر، حين تقدم نفسها، تفعل ذلك من خلال أيقوناتها: الأدب، والموسيقى، والفن، والبشر.

هذه الصورة وحدها تقول الكثير: رئيس مصر، رئيس فرنسا، نجيب محفوظ، وأم كلثوم... إنه لقاء رمزي بين ضفتين من الحضارة، بين ضوء الشرق وذوق الغرب، بين من ألهموا العالم بالكلمة واللحن، وبين من يسيرون اليوم على خطاهم في صناعة مستقبل أكثر وعيًا بجذوره.

عبارة "رائحة التاريخ تفوح من كل طوبة وبيت وزقاق وحارة" لم تكن وصفًا أدبيًا بقدر ما كانت واقعًا معاشًا في تلك الجولة. فالتاريخ في مصر لا يسكن المتاحف فقط، بل يعيش في الشارع، يُستنشق من الهواء، ويُسمع في صوت الباعة، ويُرى في انحناءة أبواب البيوت، وفي تفاصيل الأرصفة القديمة التي مر عليها الملوك والفقراء، الثوار والعشاق، الشعراء والأنبياء.

ولأن فرنسا من أكثر الدول التي ارتبطت بالحضارة المصرية تاريخيًا وثقافيًا، فإن هذه الزيارة تأخذ بعدًا خاصًا. فمن شامبليون وحجر رشيد، إلى بونابرت ورحلات المستشرقين، ظل الفرنسيون مفتونين بمصر، يتأملونها ويكتبون عنها، ويستلهمون منها رؤيتهم للشرق. واليوم، لا تزال هذه العلاقة تتجدد، ليس فقط عبر السياسة، بل من خلال الثقافة والتاريخ والاحترام المتبادل.

ما حدث في القاهرة القديمة هو أكبر من جولة سياحية. إنه نموذج متقدم للدبلوماسية الثقافية، التي باتت اليوم واحدة من أهم أدوات التواصل بين الشعوب. الصورة التي نقلتها وسائل الإعلام العالمية لرئيسي دولتين يتجولان وسط الناس، في أزقة خان الخليلي، أمام تمثال أم كلثوم، في مقهى نجيب محفوظ، تساوي في قيمتها ملايين الدولارات من الحملات الدعائية. إنها دعوة مفتوحة للعالم: تعالوا إلى مصر، فهنا يسكن التاريخ، وهنا تتنفس الحضارة.

لقد نجحت هذه الجولة في أن تُعيد توجيه الأنظار إلى جوهر مصر الحقيقي، بعيدًا عن القوالب النمطية، مُقدمة مشهدًا حضاريًا راقيًا يتجاوز الحدود، ويحاكي الوجدان الإنساني بلغة يفهمها الجميع: لغة الأصالة والروح والذاكرة.

كل التقدير لصاحب هذه الفكرة التي حملت رسائل عميقة بأبسط الوسائل. فحين تتكلم مصر بلغة التاريخ، يُنصت إليها العالم.