بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

عن الاحتلال والضمّ بين سايكس وبيكو وترامب

فى عام 1916، وبينما كانت الحرب العالمية الأولى لا تزال مستعرة، وقّعت بريطانيا وفرنسا، بموافقة روسيا، اتفاقية سرية ستغيّر وجه الشرق الأوسط إلى الأبد. لم يكن العرب الذين قاتلوا إلى جانب الحلفاء ضد العثمانيين يعلمون أن وعود الاستقلال التى قُطعت لهم فى رسائل ماكماهون للشريف حسين لم تكن سوى خدعة كبرى، وأن مصير أراضيهم قد تقرر بالفعل خلف الأبواب المغلقة فى لندن وباريس. تلك الاتفاقية، التى عُرفت باسم سايكس-بيكو، لم تأخذ فى الحسبان الحقائق التاريخية أو البنية الاجتماعية لسكان المنطقة، بل رسمت حدودًا مصطنعة أدت إلى صراعات لا تزال تداعياتها قائمة حتى يومنا هذا.

وما أشبه الليلة بالبارحة! فبعد أكثر من قرن على ذلك الاتفاق الاستعمارى، تبرز اليوم خطط توسعية جديدة تتجاوز الشرق الأوسط، لكنها لا تختلف فى جوهرها عن منطق سايكس-بيكو. سياسة الضمّ والاستحواذ التى تبناها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب كشفت عن رؤية استعمارية حديثة تسعى إلى السيطرة على أراضٍ استراتيجية مثل كندا، غزة، قناة بنما، وجرينلاند، تحت ذرائع مختلفة، تمامًا كما فعلت القوى الأوروبية فى الماضى. الفرق الوحيد هو أن أدوات التوسع تغيرت؛ فبدلًا من الانتدابات العسكرية، أصبحت الضغوط الاقتصادية، والابتزاز السياسى، وفرض الهيمنة بالقوة الناعمة ووسائل السيطرة الجديدة.

وكما تجاهلت بريطانيا وفرنسا فى مطلع القرن العشرين الحقوق المشروعة للعرب فى تقرير مصيرهم، تتجاهل إدارة ترامب فى القرن الحادى والعشرين سيادة الشعوب التى حاولت إخضاعها. ففى كندا، استخدم ذرائع اقتصادية وسياسية للتشكيك فى سيادة الدولة، تمامًا كما ادّعت بريطانيا وفرنسا الحق فى «إدارة» أراضى الدولة العثمانية السابقة. وفى فلسطين، جاءت خطة ترامب لتعزز واقعًا استيطانيًا يهدف إلى محو أى إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة، استمرارًا للإرث الذى بدأ بإتفاقية سايكس-بيكو ووعد بلفور. أما جرينلاند، فيحاول ترامب ضمّها عبر الإغراءات الاقتصادية والضغوط الدبلوماسية، فى تكرار لما فعلته القوى الاستعمارية حين تقاسمت إفريقيا وآسيا وفقًا لمصالحها.

لكن، وكما لم تنجح سايكس-بيكو فى فرض خريطة دائمة، يبدو أن مشاريع ترامب التوسعية تواجه مقاومة شرسة، سواء على المستوى المحلى أو الدولى. فالوعى الشعبى المتزايد، والرفض القاطع من قبل الأمم المتحدة، والمواقف الصلبة لمصر والاردن، كلها مؤشرات على أن العالم لم يعد مستعدًا لتكرار الأخطاء التاريخية ذاتها. ومع ذلك، فإن استمرار مثل هذه السياسات يعكس حقيقة لا يمكن إنكارها: الاستعمار لم ينتهِ، بل فقط غيّر شكله.

إن الوقوف فى وجه هذه المشاريع لا يتطلب مجرد إدانات دبلوماسية أو بيانات استنكار، بل يحتاج إلى استراتيجية واضحة لمواجهة هذا النمط الجديد من الاستعمار. فكما أظهرت تجارب الماضى، فإن فرض الأمر الواقع لا يدوم طويلًا أمام إرادة الشعوب، وكل خريطة تُرسم بالقوة مصيرها أن تُعاد صياغتها يومًا ما بأيدى أصحاب الأرض الحقيقيين.