أوراق مسافرة
هو وكل الضمائر الغائبة «٣»
«المستشفيات العامة»، ما من مواطن فى مصر إلا واردها إلا قليلا بالطبع من فئة الأثرياء، أما الطبقة المتوسطة وما تحتها فهم المغلوب على أمرهم حين يقعون فريسة لهذه المستشفيات، فى مقالى السابق سردت بعض المعاناة التى يلقاها المواطن، ليس فقط من قبل فئات العاملين والممرضين الذين يستنزفون جيبه، بل مرورًا بغياب الأطباء وتزويغهم من مواعيد عملهم. فلا عجب أن تجد مستشفى خالية من طبيب مناوب ليلى أو طبيب طوارئ، طبعًا بجانب عدم وجود رعاية حقيقية لصحة المريض بما يرضى الله، حبذا لو كان للمريض «واسطة» قريب من الأطباء أو الممرضين أو عامل الأمن مثلًا، هنا الرعاية بالمريض ستختلف وترتقى درجات، نعم يا سادة توجد وساطة فى مستشفياتنا ليجد المريض الرعاية المستحقة المطلوبة، وساطة ليجد مريض الحالة الحرجة غرفة فى أقسام الرعاية المركزة، أه والله الوساطة عندنا حتى فى المرض، وسأصل بحديثى إلى عدم توافر أبسط الأدوات الطبية وآليات العلاج وتلك الأجهزة الطبية الرديئة المتخلفة، والأخرى المعطلة والملوثة والتى تجاهلتها أيدى الصيانة، وصولًا إلى الغرف المزدحمة باسرة المرضى والقذرة والتى لا تمتد لها يد نظافة أو تطهير حتى للأرضيات غالبًا، ستجد الأسرة عليها ملاءات كالحة الألوان وقد تحولت من الأبيض للرمادى من الأوساخ، وقد لا تخلو من بقع الدماء لمرضى سابقين، ستجد حشرات منها الصراصير بجانب جيوش الذباب تطارد المرضى وزوارهم، وفى مستشفيات المناطق الشعبية والقرى والنجوع ستجد الكلاب الضالة والقطط ترتع فى أروقة المستشفى بعضها يطارد الفئران وأخرى تبحث بين مخلفات المستشفى عن شيء تأكله. يتم استنزاف مريض المستشفيات العامة بالإكراميات، وشراء أكياس الدم، شراء بعض المتطلبات الطبية وقد تصل إلى الشاش والقطن عقابًا له لأن تذكرة الدخول رخيصة، وسيدفع معها المريض كل أعصابه، المدهش أن هؤلاء لا يفكرون لحظة بأن المريض الذى ألقاه حظه العاثر فى المستشفى العام لو كان ميسور الحال لما اضطر ليرى وجوههم، ولألقى بنفسه طواعية فى أحضان مستشفى خاص وقد حشى محفظته بعشرات الآلاف من الجنيهات، ليتم استنزافه بمزاجه وعن كفاية وثراء، لكن المؤلم أنهم فى المستشفى العام يدركون حالة المريض الواقع تحت أيديهم الممدودة كالمتسولين، بل أحيانًا كالبلطجية فارضى الإتاوات ورغم ذلك ضمائرهم الغائبة لا ترحمه أبدًا، ولا تلتمس له الإعفاء من إتاواتهم.
وإذا تحدثت عن المستشفيات الخاصة، فهذا شرحه يطول، المريض «اللقطة» الذى سيدخل من باب المستشفى لن يغادرها إلا فقيرًا، مديونًا، منهوبًا، ميتًا، إلا إذا كان مليونيرًا، داخل هذه المستشفيات كل شيء له ثمن بالآلاف، ابتسامة الممرضة، قياس أى حاجه للمريض، والويل له لو كان الأمر جراحة، إذ سيتم تقسيم أموال المريض عدة أقسام، قسم للطبيب الذى استقبل الحالة، وآخر لمن شخص المرض، وثالث لمن أجرى الفحوصات، بجانب طبعًا القيمة المبالغ بها فى تكاليف الأشعة والتحاليل، وأجرة طبيب التخدير، وأجرة الجراح الذى استقطع وقت الجراحة من مشاغله ووقته وقد كان مطلوبًا فى كام مؤتمر فى لندن وأمريكا أو أى «هجص» والسلام، وهناك مبلغ لكل طبيب سيمد يده و«يدب» مقص الجراحة فى جسد المريض. فى المستشفى الخاص «إلا من رحم ربي» إذا ما توفى المريض لا قدر الله، سيتم وضعه ليلة أو أكثر تحت أجهزة التنفس الصناعى فى غرفة الرعاية المركزة ولن يسمح لأحد من أهله بدخول الغرفة حتى لا يتم اكتشاف الأمر، ولن يعلنوا وفاته إلا بعد إضافة كام عشرة آلاف جنيه إلى الفاتورة تكلفة وضعه على الأجهزة الدقيقة «وهو ميت بالطبع»، وستدفع الأسرة المفجوعة بعد ذلك تكلفة نقله إلى ثلاجة المستشفى، وتكلفة لستة طويلة تم فعلها للميت لترتاح «الجثة» والتى لن يفرجوا عنها لدفنها إلا بعد دفع باقى الفاتورة التى أغلبها دون وجه حق، بجانب الإكراميات الجانبية لسرعة تشهيل الجسمان وعمل تصريح الوفاة.. وهكذا.
نسأل أنفسنا سؤالًا عقيمًا لأنه صار بلا إجابة، كيف يتصرف ملائكة الرحمة من الأطباء والممرضين والممرضات على هذا النحو العبثى الشره للمال لحد الموت «إلا من رحم ربي»؟، أين ضمائرهم وهم يأكلون أموالًا حرامًا وسحتًا، هل لا يتعظون بمشاهد المرض والألم والموت التى لا أحد بمنأى عنها أبدًا ولا هم أنفسهم، هل ينامون فى خير وسلام دون أى أرق بعد كل ما يفعلونه فى نهارهم أو حتى ليلهم من اصحاب المرض، اسئلة لا نجد لها إجابة، ونقول إنهم من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
وإذا ما تركنا عالم الطب الذى صار موبوءًا فى أغلبه بموت الضمائر، والذى أصبح من يتعامل معه يحتاج لعلاج نفسى ليشفى ما عانى منه، ورصدنا فئات المعلمين سنجد طامة كبرى لا تقل عن طامة الأطباء..
وللحديث بقية.
[email protected]