حين جمعت مصر القوة والحكمة لحماية الأرض
في مثل هذا اليوم، السادس من أبريل عام 1949، بدأت مصر فصلا جديدا في تاريخها الدبلوماسي عندما انطلقت مفاوضات رودس بين مصر وإسرائيل برعاية الأمم المتحدة، لوقف إطلاق النار في حرب 1948.
كانت تلك اللحظة محطة فارقة، إذ أثبتت مصر أن الدفاع عن الأرض لا يقتصر على البندقية وحدها، بل يمتد إلى ساحات المفاوضات، حيث يصنع السلام ويحفظ الكرامة الوطنية.
وقد قاد الوفد المصري في تلك المفاوضات الفريق أول محمد صدقي باشا، الرجل الذي حمل على عاتقه مسئولية التوازن بين الدفاع عن الحقوق الوطنية والسعي لإرساء هدنة تحفظ الأمن القومي المصري.
لقد كانت حرب 1948 تجربة مليئة بالتحديات، فقد واجهت مصر مع جيوش عربية أخرى مشروعا صهيونيا يسعى للتمدد على أرض فلسطين، ومع كل هذا كانت القاهرة تدرك أن الحل العسكري وحده لا يكفي، وأن العالم يتابع الخطوات بدقة، وأن السلام يحتاج إلى حنكة دبلوماسية.
لذلك جاءت مفاوضات رودس كخطوة استراتيجية، ليست دفاعية فحسب، بل أيضا ذكية، تؤكد للعالم أن مصر ليست مجرد طرف محارب، بل دولة مسؤولة تعرف كيف تحمي حقوق شعبها وتحقق مصالحه عبر القانون والشرعية الدولية.
ما تعلمته من هذا الحدث، ومن رحلتي الفكرية على مدار حياتي، هو أن حب الوطن ليس مجرد شعارات ترفع، بل مدرسة تعلمتها منذ صغري على أيدي رجال الوفد الذين زرعوا فينا معنى الولاء لتراب الوطن.
مدرسة الوفد كانت تركز على أن الدفاع عن الأرض يبدأ من القلب أولا، ومن الفكر ثانيا، قبل أن يصل إلى أي فعل مادي، هذا التعليم كان دائما مرشدا لي في فهم السياسة، وفي تقدير الدبلوماسية كأداة لا تقل أهمية عن القوة العسكرية، بل أحيانا تكون أكثر فعالية في حماية الأمن القومي والحفاظ على السيادة الوطنية.
وبالرجوع إلى مفاوضات رودس، يمكن القول إنها لم تكن مجرد خطوة مؤقتة، بل كانت بداية لسلسلة من المواقف الدبلوماسية المصرية الراسخة التي استمرت عبر العقود، والتي ما زالت مصر تحرص من خلالها على دعم القضية الفلسطينية عبر القنوات القانونية والدولية، مع الحفاظ على أمنها القومي واستقرارها الإقليمي.
مصر اليوم تتعلم من تلك التجربة القديمة أن الحوار والمفاوضات الذكية هي السبيل لتحقيق توازن بين الدفاع عن الحقوق الوطنية والسعي نحو السلام العادل.
تلك التجربة التاريخية تمنحنا دروسا واضحة في حب الوطن والعمل من أجل الأرض: أن الدفاع لا يقتصر على السلاح فقط، وأن الحكمة في التعامل مع الأزمات يمكن أن تصنع نصرا يعكس كرامة الشعب واستقلال قراره.
ولذلك، فإن كل ذكرى لمفاوضات رودس ليست مجرد تاريخ يمر، بل تذكير دائم بأن مصر، منذ عقود، كانت وستظل دولة تحمي مصالحها الوطنية بالقوة والحكمة معا، وأن الدبلوماسية المصرية ليست مجرد سياسات عابرة، بل امتداد لتاريخ طويل من الدفاع عن الحقوق والحفاظ على السيادة.
في النهاية، فإن ما أقدره شخصيا في تلك الصفحة من تاريخ مصر هو أنها علمتني أن الوطن يستحق التضحية بكل أشكالها، وأن العلم والدبلوماسية هما سلاحا المستقبل، تماما كما كانت مفاوضات رودس خير مثال على أن مصر تستطيع أن تدافع عن أرضها وحقوق شعبها بكل الوسائل، العسكرية منها والدبلوماسية على حد سواء.
واليوم، ونحن نحتفل بذكرى السادس من أبريل، علينا ألا ننسى أن حب الوطن ليس شعارات على الورق، بل أفعال تمارس على كل صعيد، وأن التاريخ يعلمنا دائما كيف نكون في مقدمة من يدافع عن حقنا وعن تراب وطننا، بقوة الإرادة وصدق النية وحكمة القرار.