بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

مستقبل النظام العالمي

 

أثار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب شكوكاً جدية حول مستقبل النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، ففي خطاباته الأخيرة وفي عمليات التصويت في الأمم المتحدة، انحازت إدارته إلى روسيا.. المُعتدي الذي شن حرب غزو ضد جارته المسالمة أوكرانيا.. هكذا يبدوا المشهد.

كما أثارت سياسة البيت الأبيض المتمثلة في فرض الرسوم الجمركية على الشركاء التجاريين تساؤلات حول التحالفات القائمة منذ فترة طويلة ومستقبل النظام التجاري العالمي، في حين أدى انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية إلى تقويض التعاون بشأن التهديدات العابرة للحدود الوطنية.

إن احتمالات الولايات المتحدة المنفصلة تماماً والمتمركزة على ذاتها لها آثار مقلقة على النظام العالمي، ومن السهل أن نتخيل روسيا تستغل الموقف لمحاولة الهيمنة على أوروبا من خلال ممارسة القوة أو التهديد بها.

وسوف يتعين على أوروبا أن تظهر قدراً أعظم من الوحدة وأن توفر دفاعها الخاص، حتى لو ظلت "الحماية الأمريكية" مهمة، وعلى نحو مماثل، من السهل أن نتخيل الصين تؤكد نفسها بشكل أكبر في آسيا، حيث تسعى علناً إلى الهيمنة على جيرانها، ومن المؤكد أن هؤلاء الجيران سوف يلاحظون ذلك.

الواقع أن كل البلدان سوف تتأثر، لأن العلاقات بين الدول وغيرها من الجهات الفاعلة الرئيسية العابرة للحدود الوطنية مترابطة، ويرتكز النظام الدولي على توزيع مستقر للقوة بين الدول؛ والمعايير التي تؤثر على السلوك وتضفي عليه الشرعية؛ والمؤسسات المشتركة.

ومن الممكن أن يتطور أي نظام دولي معين بشكل تدريجي دون أن يؤدي إلى تحول واضح في النموذج، ولكن إذا تغيرت السياسة الداخلية للقوة البارزة بشكل جذري للغاية، فإن كل الرهانات تصبح خاسرة!!

كان النظام يُفرَض غالباً بالقوة والغزو، في هيئة إمبراطوريات إقليمية مثل الصين وروما (من بين العديد من الإمبراطوريات الأخرى)، وكانت الاختلافات في الحرب والسلام بين الإمبراطوريات القوية مسألة جغرافية أكثر منها مسألة معايير ومؤسسات.

ولأنها كانت متجاورة، فقد خاضت روما و بارثيا (المنطقة المحيطة بإيران الحديثة) في بعض الأحيان معارك، في حين لم تكن روما والصين وإمبراطوريات أمريكا الوسطى كذلك.

كانت الإمبراطوريات نفسها تعتمد على القوة الصلبة والقوة الناعمة، كانت الصين متماسكة بفضل قواعد مشتركة قوية ومؤسسات سياسية متطورة للغاية ومنافع اقتصادية متبادلة، وكان الأمر كذلك بالنسبة لروما، وخاصة الجمهورية الروماني،  وكانت أوروبا ما بعد الرومانية تتمتع بمؤسسات ومعايير في هيئة البابوية والملكيات الأسرية، وهو ما يعني أن الأقاليم كانت غالباً ما تغير حكمها من خلال الزواج والتحالفات العائلية، بغض النظر عن رغبات رعاياها.


وفي نهاية القرن الثامن عشر، عطلت الثورة الفرنسية المعايير الملكية والقيود التقليدية التي دعمت لفترة طويلة توازن القوى الأوروبي، ورغم أن سعي نابليون إلى الإمبراطورية فشل في نهاية المطاف بعد انسحابه من موسكو، فقد أزالت جيوشه العديد من الحدود الإقليمية وأنشأت دولاً جديدة، مما أدى إلى أول جهود متعمدة لإنشاء نظام دولة حديث، في مؤتمر فيينا عام 1815.

ولقد عانى "حفل أوروبا" الذي أعقب مؤتمر فيينا من سلسلة من الاضطرابات على مدى العقود التالية، وأبرزها في عام 1848، عندما اجتاحت الثورات القومية القارة، وفي أعقاب هذه الاضطرابات، شن "أوتو فون بسمارك" حروباً مختلفة لتوحيد ألمانيا، التي تولت موقعاً مركزياً قوياً في المنطقة، وهو ما انعكس في مؤتمر برلين عام 1878.

ومن خلال تحالفه مع روسيا، نجح بسمارك في تحقيق نظام مستقر حتى أقاله القيصر فيلهلم الثاني في عام 1890.

ثم جاءت الحرب العالمية الأولى، التي أعقبتها "معاهدة فرساي وعصبة الأمم"، التي مهد فشلها الطريق للحرب العالمية الثانية، وكان إنشاء الأمم المتحدة ومؤسسات بريتون وودز (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمنظمة السابقة لمنظمة التجارة العالمية) بمثابة الحلقة الأكثر أهمية في بناء المؤسسات في القرن العشرين.

ولأن الولايات المتحدة كانت اللاعب المهيمن، فقد عُرفت حقبة ما بعد عام 1945 باسم "القرن الأمريكي". وقد أدى انتهاء الحرب الباردة في عام 1991 إلى توزيع أحادي القطب للقوة، مما سمح بإنشاء أو تعزيز مؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية، والمحكمة الجنائية الدولية، واتفاقية باريس للمناخ.


حتى قبل ترامب، اعتقد بعض المحللين أن هذا النظام الأمريكي يقترب من نهايته، فقد جلب القرن الحادي والعشرين تحولا آخر في توزيع القوة، والذي يوصف عادة بصعود (أو، بشكل أكثر دقة، تعافي) .

آسيا… ففي حين كانت آسيا تمثل أكبر حصة من الاقتصاد العالمي في عام 1800، فقد تراجعت بعد الثورة الصناعية في الغرب، ومثلها كمثل مناطق أخرى، عانت من الإمبريالية الجديدة التي جعلتها التكنولوجيات العسكرية والاتصالات الغربية ممكنة.

والآن، تعود آسيا إلى مكانتها كمصدر رئيسي للناتج الاقتصادي العالمي، ولكن مكاسبها الأخيرة جاءت على حساب أوروبا أكثر من الولايات المتحدة، فبدلا من التراجع، لا تزال الولايات المتحدة تمثل ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما فعلت في سبعينيات القرن العشرين، وفي حين قلصت الصين من تقدم الولايات المتحدة بشكل كبير، فإنها لم تتفوق على الولايات المتحدة اقتصاديا أو عسكريا أو من حيث تحالفاتها.

إذا كان النظام الدولي يتآكل، فإن السياسة الداخلية الأمريكية تشكل سببا بقدر ما تشكله صعود الصين..

والسؤال الآن هو ما إذا كنا ندخل فترة جديدة تماما من الانحدار الأمريكي، أو ما إذا كانت هجمات إدارة ترامب الثانية على مؤسسات وتحالفات القرن الأمريكي سوف تثبت أنها انحدار دوري آخر… وربما لا نستطيع أن نعرف الإجابة حتى عام 2029.