تفتح أبواب الرحمة والنجاة
جبر الخواطر.. عبادة بلا مشقة تنقذك فى جوف المخاطر

روت السيدة عائشة، دفينة القاهرة بمسجِدها الشهير، عن أبيها التابعى الجليل جعفر الصادق، شيخ الإمام أبى حنيفة النعمان، أنه قال: «من سار بين الناس جابرًا للخواطر.. أدركه الله فى جوف المخاطر»، وفى هذه الكلمات سر من أسرار الرحمة الإلهية، وحكمة تختصر فلسفة الإسلام فى العطاء والتراحم، فى عبادة عظيمة منسية كعبادة «جبر الخواطر».
معجزات جبر الخواطر
ومن أقوى الأمثلة على إدراك الله لعباده فى جوف المخاطر بسبب تلك العبادة اليسيرة التى لا تحمل ثقل الركوع ولا مشقة الصيام، ولا تحتاج إلى وفرة المال أو عظيم الجاه، ما قاله الدكتور حسام موافى أستاذ الحالات الحرجة بكلية طب قصر العينى: «جبر الخاطر أنقذ حياتى.. روحت عشان أجبر بخاطر واحدة تبلغ من العُمر 93 سنة فى يوم إجازتى عشان خاطر جارى، وأنا داخل القسم أصبت بجلطة قلبية، بعد 10 دقائق عملت القسطرة وربنا أنقذنى بسبب جبر الخاطر».
عبادة مهجورة بثواب عظيم
قال الدكتور عطية لاشين، عضو لجنة الفتوى بالأزهر، وأستاذ الفقه كلية الشريعة والقانون، إن العبادات فى الإسلام تتعدد لتشمل جوانب الحياة كافة، ومنها عبادة قد يغفل عنها كثيرون رغم عظيم أثرها وأجرها، وهى «عبادة جبر الخواطر»، وهذه العبادة لا تتطلب جهدًا بل تنبع من الرحمة، وقد فتح الشرع بابها دون قيود لكل من أراد أن يغترف منها ويحظى بثوابها.
وتابع لاشين أنه من صور عبادة جبر الخواطر، قضاء حوائج الناس، كمن يقصدك فى حاجة، وأنت قادر على قضائها دون أن تضرك، فتعطيه مما أنعم الله به عليك، فتدخل السرور على قلبه.
كذلك، عندما يكون لديك دَين عند شخص متعثر لا يماطل فى سداده، بل يعانى ضيق ذات اليد، فإن تأجيل السداد أو إسقاط الدين عنه إن استطعت، هو من أعظم صور جبر الخواطر، كما قال الله تعالى: «وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (البقرة: 280).
تحويل القبلة.. أعظم صورة لجبر الخواطر
قال أحمد نبوى، أستاذ علم الحديث المساعد بجامعة الأزهر، إن حادثة تحويل القبلة تعد من أبلغ صور جبر الخواطر التى شهدها التاريخ الإسلامى، حيث كرم الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتحقيق رغبته قبل أن ينطق بها، فقال تعالى: «قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا»، فجاء الأمر الإلهى بتحويل القبلة نحو المسجد الحرام، تحقيقًا لما فى قلب النبى، وإكرامًا له دون أن يطلب.
ويشير «نبوى» إلى أن هذه الحادثة تعلمنا قيمة جبر الخواطر فى الإسلام، كما يظهر ذلك فى قلق الصحابة على إخوانهم الذين توفوا قبل التحويل، فجاءت الطمأنينة الإلهية فى قوله تعالى: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ»، وهكذا، تجسد حادثة تحويل القبلة أعظم صور الرحمة الإلهية وجبر الخواطر، لتكون درسًا خالدًا فى مراعاة مشاعر الآخرين وتحقيق ما يسعدهم دون أن يطلبوه.
جزاء الإحسان بالإحسان
فيما قال مركز الأزهر العالمى للفتوى الإلكترونية أن السعيد من اصطفاه الله لخدمة الناس، فقد قال: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، يُقِرُّهُمْ فِيهَا مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ»، وجبر الخواطر لا يقتصر على العطاء المادى، بل يشمل النصح، والعلم، والكلمة الطيبة، كما أن قضاء الحوائج سرًا أفضل، لقوله تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} «البقرة: 264».
وأكد المركز أن من فضائل وجزاء جبر الخواطر نيل محبة الله، فقد قال: «أَحَبُّ النَّاسِ إلى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ»، والوقاية من الأذى، فقد قال: «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِى مَصَارِعَ السَّوْءِ»، والجزاء بالمثل، فقد قال: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً.. نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وأيضا اختتم الدكتور عطية لاشين حديثه مؤكدًا أن جبر الخواطر ليس مجرد تصرف عابر، بل هو انعكاس لمكارم الأخلاق التى دعا إليها الإسلام، وهو باب واسع لمرضاة الله، فمن جبر خواطر الناس، جبر الله خاطره، فكما قيل: «كما تدين تدان»، فمن يسعى فى قضاء حاجات الناس، يسخّر الله له من يقضى حاجته.
وهكذا، يظل جبر الخواطر عبادة القلوب قبل أن يكون سلوكًا ظاهرًا، ورحمةً تُغرس فى النفوس قبل أن تترجمها الأفعال، فمن جبر خاطرًا، جُبر خاطره من حيث لا يحتسب، ومن أدخل السرور على قلب مهموم، أذاقه الله من فرجٍ لا يخطر على بال، فاجعلها عادةً فى حياتك، وكن عونًا للناس، فالعوض عند الله أوسع، والجزاء أكرم، وما عنده خيرٌ وأبقى.