لازم أتكلم
مهاود.. قلب أبيض وكبد عنيد
لم أتوقع يومًا أن أكتب نعيه، وأحمل نعشه، وأتقدم جنازته، وأشيعه إلى مثواه، وأتلقى عزاءه، صديقى وأخى الذى لم تلده أمى، ورفيق دربى، الصحفى البطل محمد مهاود، انتصر فى معاركه الصحفية والحزبية، وهزمه الكبد.. ولكن ماذا أقول؟ وقد قال ربى كلمته، واسترد وديعته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أخى محمد.. سامحنى لو أختصرت ولم أذكر كل فضائلك، فالمساحة محدودة، واليد ترتعش، والقلب يبكى دما، والعين تفيض بالدموع، وسابدأ بمشوارك من سمنود إلى القاهرة، مع قادة وزعماء الوفد وكبار الصحفيين الذين كانت ترتجف من أقلامهم رؤساء حكومات قبل الوزراء، فورثت جرأتهم، وبطشهم بالفاسدين، تشكم كملاكم، وتلسع كالنحلة، وتصول كالفرسان.
فى ثمانينيات القرن الماضى، لمس رئيس حزب الوفد فؤاد باشا سراج الدين طيب الله ثراه والراحل مصطفى شردى رئيس تحرير الوفد، طموح الشاب محمد مهاود وهو يحبو فى بلاط صاحبة الجلالة منذ أن ودع أهله ومسكن العائلة بجوار بيت الزعيم مصطفى النحاس فى سمنود؛ وتقرر تعيينه محررًا صحفيًا بعد تخرجه من جامعة الأزهر وأصبح مديرًا للتحرير.
ومن معركة صحفية لأخرى، انطلق مهاود، يلطم الفاسدين بالقلم الحر الجرىء، ويكفيه وأولاده فخرًا أن يدافع عنه «شردى»، عندما أمر بالقبض عليه «زكى بدر» أسوأ وزير داخلية عرفته البلاد، ويكتب عنه مقالا ساخنا فى صدر الصفحة الأولى من جريدة كانت سطورها تهز مصر، حتى تم الإفراج عنه.
ولم تقتصر معاركه الوطنية على الداخل فقط، وإنما امتدت للخارج، تسبقه غيرته على البلد، التى من أجلها ضحى بالكثير، عندما وقف شامخا، فى صالة تحرير أكبر صحيفة عربية بالخليج معلنا رفضه لأى مقال يسىء إلى مصر وقائدها وشعبها ولأى حملة إعلامية بين البلدين الشقيقين.
ولم يكتف بذلك بل كتب إلى سفير مصر ينتقد صمته، وكان ثمن هذه الروح الوطنية، إنهاء خدمات مهاود، وإخراجه وأسرته من الصحيفة والخليج فى أيام معدودات، متكبدا الكثير من الخسائر المادية والمعنوية، وكان يمكن بقاؤه إذا اعتذر، إلا أنه رفض وغادر مرفوع الرأس، عالى الجبين، وكان الأحوج وقتها كصحفى يسعى لبناء مستقبله لكل جنيه وريال.
ما اعظمك محمدًا.. وأنت تقدم لتلاميذك دروسًا فى الوطنية الحقيقية، وما أعظمك وأنت تخوض معركة التحدى مع من ظلموك وحرموك من مناصب تستحقها، لكونك من وجهة نظرهم مشاغبًا ثائرًا، وكما يقولون «حاد اللسان»، وتناسوا هدفك الحقيقى وهو الدفاع عن الحق ومقاومة الانتهازيين وأعداء النجاح.
حبيبى محمد.. اكتب والقلم يسيل حزنا على فراق أستاذ وأب رحيم قلبه من ورق ناصع البياض، إذا غضب سرعان ما يعود لإنسانيته، وفطرته كالطفل فى المهد، يكتفى بالأنين وجرعة ماء تعيده للهدوء.
عشت نظيف اليد، مفتخرا بكفاحك، بعت الدنيا مبكرا، وتفرغت لمعركة الكبد العنيد، ورحلت لا تملك من حطام الدنيا سوى شقة بالإيجار، وكارت معاش زهيد، ورصيد من العزة والكرامة، يحسدونك عليه أصدقاؤك قبل أعدائك، الذين اختلفوا معك حيا، فدعوا لك بالشفاء مريضًا، وبالرحمة ميتا.
لن ننساك يا بطل، وعزاؤنا جميعا أنك تركت لنا جيلا نهل من معين خبرتك، وأنجبت لنا ثلاثة أبناء وابنة، علمتهم الطب والهندسة وزرعت فيهم الطيبة والتواضع وحب الوطن، يرحمك الله أبا أمجد وأيمن وعاصم ومريم، وجعل الجنة مثواك، والفردوس الأعلى منتهاك، وإلى أن ألقاك يوم يريد الله اللقاء.