النصر العسكري في السياسة جزء من المعادلة
سؤال : من الذي برز كفائز استراتيجي في هذا الصراع؟
الحروب ليس لمن انتصر في ساحة المعركة، بل لمن خرج منتصراً في نهاية المطاف بعد انتهائها… ولا يقاس النجاح في الحرب بالمكاسب العسكرية قصيرة الأجل، بل بالإنجازات الطويلة الأجل ــ العسكرية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية.
وفي بعض الأحيان تمهد الهزيمة الطريق للسلام .. وفي بعض الأحيان، يكون ما يتم اكتسابه في مقابل الخسارة العسكرية أكثر أهمية مما تم خسارته، وفي بعض الأحيان لا يستحق ما تم اكتسابه الثمن المدفوع !!
الآن، بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، يتعين علينا أن نسأل: من الذي انتصر في هذه الحرب التي استمرت 467 يوماً تقريبا ً؟
قد تبدو الإجابة الفورية بسيطة... فإسرائيل هي المنتصرة عسكرياً، وهي النتيجة التي كانت متوقعة نظراً للتفاوت الصارخ في الأسلحة والدعم الكامل من جانب الولايات المتحدة.
ولكن هذه ليست الإجابة الكاملة… فالمنتصر الحقيقي في الحرب هو الجانب الذي يحقق النجاح الاستراتيجي... ومن هذا المنظور، يصبح السؤال أكثر تعقيداً… إن تحديد ما إذا كانت إسرائيل أو حماس قد نجحت استراتيجياً لا يتعلق بالنتائج العسكرية بقدر ما يتعلق بالتداعيات الأوسع نطاقاً؟.
ولنتأمل هنا أمثلة تاريخية. ففي الحرب العالمية الأولى، انتصر الحلفاء عسكرياً، ولكن معاملتهم المهينة لألمانيا في معاهدة فرساي (1919) مهدت الطريق لصعود النازية والحرب العالمية الثانية... وحقق الاتحاد السوفييتي السيطرة العسكرية على جزء كبير من أفغانستان، ولكنه تكبد تكاليف بشرية واقتصادية هائلة، إلى جانب المقاومة الداخلية والدعم الغربي للمجاهدين، الأمر الذي ساهم في انهياره في نهاية المطاف.
وبعد عقود من الزمان، حققت الولايات المتحدة بسرعة نصراً عسكرياً في أفغانستان، ولكنها أرست الأساس لعودة طالبان الأكثر قوة بعد عشرين عاماً... وعلى نحو مماثل، أطاحت الولايات المتحدة وحلفاؤها بنظام صدام حسين في عام 2003، ولكنها واجهت عواقب مثل عدم الاستقرار السياسي، وصعود تنظيم داعش أو " صناعته " ، ونفوذ إيران المتزايد في العراق… وتوضح هذه الأمثلة أن الانتصارات في ساحة المعركة لا تضمن النجاح الاستراتيجي.
في الصراع الأخير في غزة، حققت إسرائيل مكاسب عسكرية كبيرة ولكنها فشلت في تأمين النصر المطلق أو القضاء على حماس بالكامل، وفي مقابل هذا النجاح العسكري، واجهت إسرائيل ضغوطاً دولية متزايدة.
وقد أثارت هجماتها على المناطق المدنية والقيود المفروضة على المساعدات الإنسانية انتقادات واسعة النطاق من جانب منظمات حقوق الإنسان والرأي العام العالمي... حتى أن المحكمة الجنائية الدولية اتهمت إسرائيل بانتهاكات حقوق الإنسان والإبادة الجماعية في غزة، وأصدرت أوامر اعتقال بحق نتنياهو.
ساهمت هذه الضغوط في قبول إسرائيل لوقف إطلاق النار، ولكن بحلول ذلك الوقت، كان الضرر قد وقع بالفعل… فقد دمرت إسرائيل الكثير من البنية الأساسية في غزة، بما في ذلك مرافق القطاع، وقتلت الآلاف من المدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال، ومع ذلك، فإن إسرائيل بفعلها هذا تآكلت شرعيتها في نظر الرأي العام العالمي، حتى بين حلفائها.
من ناحية أخرى، نجحت حماس، على الرغم من خسارتها للعديد من قادتها، في إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة الوعي العالمي، ومن خلال التأكيد على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، حازت حماس على دعم واسع النطاق من المجتمعات الإسلامية والعربية، وأصبحت رمزاً للنضال من أجل الحرية الفلسطينية.
لقد منح وقف إطلاق النار الأخير أيضاً شرعية ضمنية لحماس حتي ولو ظاهرياً ، حيث تم التوصل إليه من خلال وسطاء إقليميين وعدون نزع سلاح الجماعة أو إضعافها بشكل كبير حتي ولو لفترة.
وقد عزز هذا من مكانة حماس كلاعب رئيسي في المقاومة الفلسطينية والسياسة الإقليمية، مما قوض هدف إسرائيل المتمثل في القضاء على الجماعة أو عزلها.
إذن، من الذي برز كفائز استراتيجي في هذا الصراع؟ بين إسرائيل وحماس، كانت حماس هي التي حققت نوعا ما النجاح الاستراتيجي - ليس من خلال الانتصارات في ساحة المعركة، ولكن من خلال إدارة رأس مالها السياسي بمهارة.
إن بناء الشرعية عملية طويلة الأمد قد تستغرق عقودًا من الزمن، ولكن فقدانها يمكن أن يحدث في لحظة… بالنسبة لإسرائيل وحماس، امتدت هذه الرحلة لمدة 467 يومًا بالضبط.. خلال هذه الفترة، ركزت إسرائيل فقط على النصر العسكري، في حين جمعت حماس رأس المال السياسي استراتيجيًا لفترة ما بعد الحرب.
في نهاية المطاف، تحولت الحرب التي اعتقدت إسرائيل أنها ستنتهي بالهيمنة العسكرية إلى انتصار سياسي لحماس.
جلبت هذه المواجهة تكاليف بشرية غير مسبوقة وشكلت نقطة تحول في ديناميكيات القوة الإقليمية… لقد خلقت إسرائيل، من خلال عملياتها العسكرية، مشهداً من الدمار والمأساة الإنسانية، مما هز الرأي العام العالمي بشأن شرعيتها ودفع الدول الإسلامية وحتى بعض المجتمعات الغربية إلى دعم الفلسطينيين.
وفي الوقت نفسه، استخدمت حماس، بدلاً من التركيز فقط على المكاسب الإقليمية، القصص والتضامن العام لتصوير نفسها كحركة مقاومة مشروعة.. وقد أدت هذه الاستراتيجية إلى رفع حماس إلى مكانة رمزية، ليس فقط بين الفلسطينيين ولكن في جميع أنحاء العالم الإسلامي والعربي .
واليوم، لا تزال غزة تعاني من ندوب الحرب، ولكن حماس خرجت من الأزمة برأس مال سياسي غير مسبوق لمستقبلها أيا كان داخل او خارج القطاع...
وقد أظهر هذا الصراع أن النصر العسكري في السياسة ليس سوى جزء من المعادلة؛ وأن الشرعية هي الورقة الرابحة التي تحدد النتيجة.