فى المضمون
اللعب مع «ترامب»
كيف نجح السيسى فى تفريغ خطة تهجير أهالى غزة وفرض رؤية عربية لإعادة الإعمار؟ سؤال قد يبدو سابقا لأوانه.. وخطة التهجير التى طرحها ترامب تحت ذريعة إعادة الإعمار وتحويل غزة إلى ريفيرا لا تزال حية، والرئيس الأمريكى مستمر على تنفيذها، ولكن المتابع لتغير اللهجة الأمريكية يدرك تماما أن فى الكواليس لاعبين أساسيين حولوا دفة الأمر بامتصاص صدمة الاقتراح الأمريكى القاتل للقضية الفلسطينية برمتها والبدء بعد ذلك فى تغيير المسار إلى خطة مصرية قدمت مكتملة وقابلة للتنفيذ بدون تهجير.
ومنذ اندلاع الحرب فى غزة، تصاعدت التكهنات حول خطط تهجير الفلسطينيين من القطاع إلى سيناء كجزء من سيناريوهات اقترحتها دوائر قريبة من إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب. إلا أن الرئيس عبد الفتاح السيسى، وببراعة سياسية محسوبة، استطاع إفشال هذه المحاولات وتفريغها من مضمونها، فارضًا رؤية عربية بديلة تركز على إعادة إعمار غزة دون المساس بالحقوق الوطنية الفلسطينية
خلال فترة حكم ترامب الأولى، برزت خطة «صفقة القرن» التى حاولت إعادة رسم معالم الصراع الفلسطينى-الإسرائيلى وفق منظور يراعى المصالح الإسرائيلية بالدرجة الأولى. ومن بين المقترحات التى طُرحت فى هذا السياق، نقل سكان غزة إلى مناطق فى شمال سيناء تحت ذرائع إنسانية. هذه الخطة واجهت رفضًا مصريًا قاطعًا، لكن عودتها إلى الواجهة بعد أحداث 7 أكتوبر قبل الماضى وتصاعد العمليات العسكرية فى غزة وانتهاء بوقف إطلاق النار الأخير قبل مجىء ترامب بأيام حتى إعلان الرئيس الأمريكى فى ولايته الثانية عن خطة تهجير بلا عودة مما وضع المنطقة كلها وعلى رأسها مصر تحت ضغط غير مسبوق، ولكن الخبرة المصرية فى التعامل مع ترامب نجحت فى عرقلة تلك الخطة على الأقل بل وفرض الخطة المصرية البديلة.
كانت واشنطن تراهن على واقع إنسانى متدهور فى القطاع يدفع سكانه إلى النزوح، ما يفتح الباب أمام فرض حل «مؤقت» يتحول مع الوقت إلى واقع دائم. لكن القاهرة كانت مستعدة لهذه المناورة.
منذ بداية الأزمة، تبنى السيسى خطابًا واضحًا: مصر لن تسمح بتهجير الفلسطينيين من أرضهم. هذا الموقف لم يكن مجرد تصريح سياسى، بل جاء مدعومًا بإجراءات عملية منها:
تعزيز الوجود الأمنى فى سيناء لمنع أى محاولات لعبور جماعى.
تحرك دبلوماسى مكثف مع القوى الإقليمية والدولية لتأكيد أن أى حل يجب أن يحترم السيادة الفلسطينية.
فتح معبر رفح لدخول المساعدات دون السماح بنزوح جماعى، ما حرم أصحاب خطة التهجير من استغلال الأزمة الإنسانية لتبرير مخططهم.
أدرك السيسى أن المواجهة المباشرة مع واشنطن لن تكون مجدية. لذا، تبنى سياسة «الموافقة المشروطة»، حيث أبدى استعدادًا للتعاون فى ملفات إقليمية مقابل ضمانات أمريكية بعدم المساس بسيادة الأراضى الفلسطينية. هذه الاستراتيجية جعلت من مصر لاعبًا لا يمكن تجاوزه، وحولت الخطط الأمريكية إلى مجرد أفكار غير قابلة للتنفيذ.
السيسى استخدم لغة المصالح المشتركة مع إدارة ترامب، مستفيدًا من احتياج واشنطن لدور مصرى فى ملفات مثل ليبيا، مكافحة الإرهاب، وأمن الملاحة فى قناة السويس. وهكذا، وجد البيت الأبيض نفسه مضطرًا للتراجع عن أى خطوات قد تضر بالعلاقة مع القاهرة.
بعد عرقلة خطة التهجير الترامبية، تحركت القاهرة نحو الخطوة التالية: إعادة إعمار غزة برؤية عربية شاملة قدمتها مصر تقوم على جمع تمويل عربى ودولى مخصص لإعادة الإعمار. ومشاركة شركات متعددة الجنسيات بإعادة وتأهيل غزة دون خروج سكانها بل ومشاركتهم فى خطط الإعمار، مع ربط الإعمار بعملية سياسية تضمن استقرار القطاع دون تغييرات ديموغرافية قسرية.
مع تعزيز التنسيق مع السلطة الفلسطينية لضمان أن الإعمار يتم تحت مظلتها، ما يعيد شرعية السلطة فى غزة، نجح السيسى فى تجاوز أحد أخطر سيناريوهات الصراع فى غزة، وأثبت أن مصر قادرة على حماية أمنها القومى دون التخلى عن دورها التاريخى فى دعم القضية الفلسطينية.
لقد كانت لعبة معقدة مع ترامب، لكن السيسى لعبها ببراعة، فحرم الإدارة الأمريكية من تنفيذ أجندتها المتعلقة بتهجير الفلسطينيين، وفرض رؤية عربية تركز على الإعمار والاستقرار بدلًا من التهجير والنزوح.