مصطفى باشا النحاس .. حضور لا يغيب رغم ستة عقود رحيلا
منذ يومين مرت الذكرى التاسعة والخمسون لرحيل مصطفى باشا النحاس، الرجل الذي لا يمكن أن يمر اسمه أمام أي مصري محب لتاريخ بلده دون أن يستشعر قدرا من العرفان والاحترام.
قد تختلف بشأنه الآراء، وقد تتباين حوله المواقف، لكن يبقى الرجل علامة بارزة في مسيرة الكفاح الوطني، ورمزا لحلم المصريين الطويل في الحرية والاستقلال، وقامة سياسية لم تنكسر رغم ما واجهته من معارك وصدمات ومحاولات اغتيال، ورغم ما عاشته من لحظات مريرة كانت كفيلة أن تثقل أي قلب وتنهك أي روح.
عندما أتأمل سيرة مصطفى النحاس، لا أراه مجرد رئيس وزراء تولى الحكم مرات متعددة، ولا مجرد زعيم لحزب الوفد، ولا شخصية دار حولها الجدل في لحظات بعينها.
أنا أراه قبل كل شيء ابنا لهذا الوطن، ابنا خرج من قلب سمنود، من أسرة بسيطة لم يكن لها في بداياته أي علاقة بالمناصب أو الأضواء.
أراه الصبي الذي بدأ حياته في مكتب تلغراف، ثم شق طريقه بتعبه واجتهاده حتى صار قاضيا، ثم صار رفيقا لسعد زغلول في مسيرة النضال، ثم وقف على منصة البرلمان يوما ليقول بصوته: "من أجل مصر وقعت معاهدة 1936، ومن أجل مصر ألغيها."
في حياة النحاس لحظات كثيرة قد نختلف حول تفاصيلها، لكني أؤمن أن هذا الاختلاف نفسه دليل على أنه كان موجودا في قلب الأحداث، فلم يكن متفرجا، ولا كان رجلا يمر مرورا عابرا على المشهد السياسي.
كان واحدا من أولئك الرجال الذين لا يعرفون الحياد عندما تكون مصر طرفا في المعادلة، عاش عمره كله مؤمنا بأن مصر أكبر من كل المناصب، وأسمى من كل الحسابات، وأن مهمة السياسي الحقيقية ليست أن يحافظ على مقعده، بل أن يحافظ على وطنه.
أشعر دائما وأنا أتذكره أنه كان يحارب على جبهات كثيرة في وقت واحد: جبهة ضد الاحتلال الإنجليزي، وجبهة ضد القصر الملكي عندما كان يحاول أن يجعل السياسة المصرية مجرد ملحق لإرادة الملك، وجبهة ضد خصومه الذين لم يرحموه، وجبهة أكبر ضد ظروف العصر وضغوطه.
تخيل رجلا يتولى الحكم سبع مرات، ويسقطه الملك مرة، ويعاد للوزارة مرة أخرى بدبابات الإنجليز، ويهاجمه البعض لأنه قبل التكليف، ويهاجمه آخرون لأنه لم يرفضه.
ورغم ذلك يبقى ثابتا على قناعته بأن الوطن ليس ملكا لأحد، وأن الدستور خط أحمر، وأن المصريين يستحقون دولة حديثة تعاملهم باحترام.
وما يجعلني أكثر احتراما للنحاس هو قدرته على الصمود، ليس فقط في مواجهة خصومه، بل في مواجهة الزمن نفسه، فقد شهدت حياته السياسية تقلبات يصعب أن يتحملها بشر: صعودا وهبوطا، تأييدا ومعارضة، تهليلا وهجوما، لكنه لم يغير ولاءه لمصر يوما.
ومن يعرف تاريخ الأربعينيات والخمسينيات يدرك أن قرار إلغاء معاهدة 1936 لم يكن مجرد موقف سياسي، بل كان شرارة دفعت الشعب كله إلى مستوى أعلى من الوعي الوطني، وأشعلت جذوة المقاومة في منطقة القناة، ورفعت معنويات المصريين في وقت كانوا يشعرون فيه بأن الاحتلال واقع لا مفر منه.
لم يكن النحاس ملاكا، ولم يدع الكمال، ولم يكن عصره خاليا من الأخطاء أو الأزمات، لكني أراه رجلا اجتهد، اجتهد بصدق، ودفع ثمن اختياراته، وتحمل مسؤولياته، ودخل الصراع بقلب مفتوح، وعندما أخطأ دفع الثمن بنفسه، وعندما أصاب استفادت مصر كلها، وهذه في رأيي شجاعة لا تقل قيمة عن أي معركة سياسية.
أكثر ما يلمسني في قصة النحاس أنه كان زعيما من لحم ودم، قريبا من الناس، مؤمنا بالدستور والقانون، محاربا من أجل استقلال القضاء، ومدافعا عن مجانية التعليم وحق الفقراء في أن ينالوا فرصا عادلة، عاش حياته في خدمة وطنه، ورحل في هدوء، ولم يترك وراءه قصورا ولا ثروات، بل ترك تاريخا وثيقة حب بينه وبين الناس.
عندما تمر ذكرى رحيله، لا أسترجع فقط ما حدث في زمنه، بل أسترجع معنى الزعامة نفسها، الزعامة التي لا تصنعها الألقاب، بل يصنعها الإخلاص.
الزعامة التي تقاس بمدى قدرة الرجل على أن يضع وطنه فوق كل شيء، وأن ينهض كل مرة يقع فيها، وأن يبقى ثابتا رغم كل عواصف السياسة.
وأنا أكتب عنه اليوم أشعر أننا نحتاج أن نعيد قراءة تاريخ رجال مثل مصطفى النحاس باشا، ليس لنمجد الماضي، بل لنتعلم كيف تصنع الوطنية، وكيف يكون الانتماء فعلا لا شعارا، وكيف يكون السياسي صادقا مع نفسه قبل أن يكون صادقا مع الناس.
لقد رحل النحاس منذ 59 عاما، لكن ما قدمه لم يرحل، وما تركه لم يختف، وتبقى سيرته دليلا على أن مصر دائما تنجب رجالا مستعدين لتحمل المسؤولية، والوقوف في مواجهة المستحيل عندما يتطلب الأمر، رحم الله مصطفى النحاس، الزعيم الذي عاش لمصر، ومات وهو يحمل همها في قلبه.