محمود سامي البارودي.. شاعر الثورة ورمز النهضة المصرية
محمود سامي البارودي باشا ليس مجرد اسم في صفحات التاريخ المصري، بل هو رمز من رموز النهضة الأدبية والسياسية في مصر، شخصية جمعت بين حدة القلم وصرامة الإدارة، بين الشعر والسلطة، بين الفكر والعمل، حتى أصبح اسمه مرادفا للإبداع والوفاء للوطن.
ولد البارودي في القاهرة عام ١٢٥٥ه الموافق ١٨٣٩م، ونشأ في بيئة عريقة عرفت بالعلم والانضباط، فهو محمود بن حسن حسني بن عبد الله البارودي المصري، نسبة إلى إيتاي البارود، حيث كان أحد أجداده قد التزم بأخلاق العلم والتقوى، ما جعله يربى على قيم الانضباط والالتزام منذ صغره.
تلقى تعليمه في المدرسة الحربية، ومن هناك بدأ طريقه الذي جمع بين العسكرية والإدارة والأدب، ليصبح نموذجا متفردا للرجل المصري المتكامل الذي يحمل سيف الفكر والقلم على حد سواء.
لم يكن البارودي مجرد شاعر، بل كان رجل دولة شغل عدة مناصب سياسية مهمة، وكان له حضور مميز في الإدارة المصرية خلال فترة حرجة من تاريخ مصر.
تولى وزارة الأوقاف لفترة قصيرة جدا، من رجب إلى رمضان ١٢٩٦ه، في عهد محمد شريف باشا الثانية، ثم أصبح ناظر الأوقاف خلال فترة شديدة الحساسية بين ١٨٧٩ و١٨٨١م، حيث تداخلت المسؤوليات السياسية والإدارية مع التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي واجهت مصر في ذلك الوقت.
إضافة إلى ذلك، تقلد البارودي مناصب أخرى مثل نظارة الجهادية والبحرية، وظل دائما على رأس نظارة الأوقاف، مؤكدا على قدرته على الموازنة بين مختلف الملفات المعقدة التي كانت تقع على عاتقه.
لكن محمود سامي البارودي لم يكن مجرد مسؤول حكومي، بل كان شاعر النهضة الذي أعاد للشعر العربي رونقه، وقدم نموذجا فريدا للجمع بين الكلمة المؤثرة والفكر الواعي، بين المشاعر الوطنية والانشغال بأمور الإدارة.
عرف عنه أنه "رب السيف والقلم"، لأنه جمع بين القوة الأدبية والقدرة على تحمل أعباء السياسة، وبين الشعر والقيادة، وبين الالتزام بالقيم الوطنية والقدرة على مواجهة التحديات.
في زمنه، كانت مصر تمر بتحولات كبرى، وكانت الثورة العرابية مثالا على مقاومة الظلم ومطالبة الشعب بحقوقه، وكان البارودي من أبرز قادتها، حتى انتهى به المطاف إلى النفي، إلا أن اسمه بقي خالدا في الذاكرة المصرية، ليس فقط كشاعر وإنما كرجل وطن عاشق لمصر بكل تفاصيلها.
رغم قصر فترة ولايته لوزارة الأوقاف، فإنها كانت فترة مليئة بالتحديات، ولكنه ترك أثرا لا ينسى، مؤكدا على أهمية الفكر والعمل المتوازن.
ترك البارودي إرثا شعريا خالدا جمعه في "ديوان البارودي"، الذي يظل مرجعا مهما لكل من أراد فهم الشعر المصري الحديث وروحه الوطنية.
لقد استطاع أن يصنع من الكلمة سلاحا، ومن الشعر مرآة تعكس هموم الشعب المصري وأحلامه، ومن الإدارة أداة خدمة للوطن، كل ذلك في شخص واحد، جمع بين الفكر والضمير الوطني والالتزام بالواجب، ما يجعله رمزا حقيقيا للنهضة المصرية.
البارودي هو المثال الحي على أن مصر لم تنتج مجرد شعراء أو مجرد سياسيين، بل أنتجت رجالا قادرين على صناعة التاريخ بالكلمة والفعل، رجالا لا يخافون على وطنهم في الظروف الصعبة، ويؤمنون بأن النهضة الحقيقية تأتي من الجمع بين العلم والعمل والشعور الوطني العميق.
محمود سامي البارودي باشا يظل في ذاكرة المصريين رمزا للكرامة والإبداع والوفاء، شخصية تجمع بين حيوية الشباب وعقل الرزانة، بين الصرامة في المسؤولية والنعومة في الشعر، بين الوطنية والشجاعة الفكرية، ليظل اسمه خالدا في قلب مصر وروحها، ومصدر إلهام لكل من يطمح لأن يكون مواطنا صادقا يحب وطنه ويعمل لأجله بكل إخلاص.