بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

علي باشا مبارك.. مهندس النهضة المصرية الحقيقية

علي باشا مبارك هو أحد أعمدة النهضة المصرية الحديثة، رجل جمع بين العلم والإدارة والفكر الإصلاحي، ومثل بحق نموذجا نادرا للرجل الذي يستطيع أن يربط بين المعرفة التقنية والوعي الاجتماعي والحرص على مصلحة وطنه. 

ولد في قرية برنبال بالدقهلية عام 1823، وعاش رحلة تعليمية استثنائية، بدءا من مدرسة أبو زعبل، ثم المهندسخانة، وصولا إلى باريس حيث درس الهندسة المدنية والتحق بمدرسة متز لتعلم الاستحكامات العسكرية، ليعود بعدها إلى مصر حاملا رؤية شاملة للتطوير والتنمية، وعين في وظائف مرموقة، أبرزها ناظر الأوقاف والمعارف العمومية، ليضع بصماته التي لا تمحى على مسار التعليم والإدارة في مصر.

في فترات توليه لمنصب ناظر الأوقاف والمعارف، لم يكن علي باشا مبارك مجرد موظف يطبق التعليمات، بل كان مفكرا إصلاحيا يرى في الأوقاف قوة حية للنهوض بالتعليم والدعم الاجتماعي. 

فقد حرص على الاستفادة من موارد الأوقاف في إنشاء المدارس وتطويرها، معتبرا أن الانضمام بين الأوقاف والمدارس يخلق تضافرا بينهما يعود بالنفع على التعليم بأسره. 

وكان يصر على أن يتمكن الطلاب المتخرجون من مكاتب الأوقاف والمكاتب الأهلية المنتظمة من التدرج إلى المدارس العالية، حتى يصبح التعليم حقا متاحا للجميع، لا امتيازا لعدد قليل.

لم يقتصر اهتمامه على التعليم فقط، بل امتد ليشمل رعاية مال الوقف وإحيائه، فقد جدد العقارات القديمة، وأدخل إصلاحات جوهرية على مباني المكاتب والمدارس، وربطها بعقارات الأوقاف لتكون مصدرا دائما للإيرادات. 

كما أنشأ مأموريات للأوقاف في جميع أنحاء القاهرة، مكونة من مهندسين وكتبة ومعاونين، ووضع أنظمة صارمة لمحاسبة من يتقاعس عن واجبه، فانتظم تحصيل الإيرادات وتحسنت أحوال الأوقاف بشكل واضح.

وكانت رؤيته تتجاوز القاهرة، فقد نظم الأوقاف في الأقاليم، وجعل طنطا مركزا للموظفين في الوجه البحري، بينما يخاطب موظفو الوجه القبلي الديوان العام، لضمان ضبط الإيرادات وتحصيلها بشكل سليم، وتنظيم المصروفات بما يحقق صالح الوقف ويزيد من ريعها. 

كما اهتم بتحويل الأراضي الخربة إلى مساكن وحوانيت، فتغيرت كثير من مناطق المدن من أماكن غير صالحة للحياة إلى مناطق مفيدة، جالبة للخير والريع للوقف.

وبجانب جهوده الإدارية، ترك علي باشا مبارك إرثا فكريا هائلا من خلال مؤلفاته، ومن أبرزها "الخطط التوفيقية" في عشرين مجلدا، الذي يعكس فكره التنظيمي ورؤيته الشاملة للتنمية والتخطيط العمراني والإداري في مصر. 

كما اهتم بنقل المخطوطات والكتب من المساجد إلى مكتبات منظمة، لتصبح متاحة للباحثين والدارسين، محافظة على تراث مصر الفكري والثقافي.

لقد كان علي باشا مبارك نموذجا للقائد الإصلاحي الذي يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، ويؤمن بأن التعليم والتنمية والإدارة السليمة هي أدوات بناء أمة قوية. 

فمسيرته تمثل رسالة حقيقية لكل من يسعى لتطوير وطنه بصدق وإخلاص، رسالة تقول إن النهضة لا تتحقق إلا بالإدارة الحكيمة، والتفكير المستنير، والإيمان بالعلم، والرغبة الحقيقية في خدمة الناس والوطن.

رحل علي باشا مبارك في الرابع عشر من نوفمبر 1893، لكنه ترك وراءه إرثا لا ينسى من التنظيم والإصلاح والتعليم والرؤية الوطنية، تاركا للأجيال القادمة مثالا حيا على معنى الخدمة الوطنية الحقيقية، ورؤية الإصلاح التي تتجاوز الفرد لتسهم في بناء المجتمع كله. 

إن سيرته تعكس جوهر النهضة المصرية، وتؤكد أن التاريخ يصنعه الرجال الذين يملكون رؤية واضحة، وإرادة قوية، وقلبا يحب وطنه بصدق.