بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

سر مصطفى كامل الذي لا يزال يوقظ المصريين

لا أستطيع أن أستحضر سيرة الزعيم مصطفى كامل دون أن أشعر بأن هذا الرجل لم يكن مجرد اسم في كتب التاريخ، بل كان شعلة وعي وصوت ضمير وحالة وطنية خالصة، يندر أن تتكرر. 

فكلما قرأت حياته أو تأملت مسار نضاله، أدركت أن بعض البشر يولدون ليعيشوا أعمارا قصيرة، لكن يتركون أثرا أبقى من الزمن نفسه. 

مصطفى كامل كان واحدا من هؤلاء، لم يحمل هم نفسه، ولا انشغل بما يجمع أو بما يكسب، بل عاش بثبات عجيب على فكرة واحدة: أن مصر يجب أن تبقى للأبد وطنا حرا لأبنائها، وأن الإنجليز مهما طال بقاؤهم سيرحلون. 

كان يؤمن بذلك إلى حد يقين لا يعرف التردد، وكأنه يرى الغد بعينه، وكلما أعدت قراءة كلماته الشهيرة "لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا"، أجدني متأكدا أن الرجل لم يكن يردد شعارا، بل كان يعبر عن عقيدة راسخة في قلبه وعقله وروحه.

ولد مصطفى كامل في زمن كان فيه الاحتلال يثقل صدور المصريين، وكانت مصر تبحث عن صوت يقودها ويوقظ همتها، ومنذ صغره، بدا أن هذا الصوت سيكون صوته هو، طفل ينتقل بين مدارس مختلفة، لا خوفا من العلم، بل هربا من الظلم، شجاعا لا يقبل إهانة، ويقف أمام أساتذته ليجادل ويشرح ويدافع عن الحق كأنه رجل اكتمل عقله قبل أوانه. 

وحين التحق بالمدرسة الخديوية، لم يكتف بالجلوس في مقاعد الدراسة، بل أسس جماعة أدبية يخطب فيها زملاءه، وهو لم يبلغ السابعة عشرة بعد. ذلك الجيل لو عاد اليوم لظن أن مصطفى كامل كان يكبره بعقود لا بسنوات قليلة.

وحين سافر إلى فرنسا، لم يذهب مجرد طالب يبحث عن شهادة، بل ذهب بعقل يريد أن يتسع وقلب يريد أن يقوى، تعلم القانون، لكنه تعلم معه كيف يواجه الاحتلال بأدوات الفكر والخطابة والوعي. 

كتب مسرحية "فتح الأندلس"، وتواصل مع كبار المثقفين في فرنسا، وكان يدرك أن معركته لن تحسم فقط في شوارع القاهرة، بل أيضا في صفحات الصحف الأوروبية وفي عقول الشعوب التي خدعتها الدعاية البريطانية، كان يؤمن أن معركة الوعي جزء من معركة التحرير، وربما هذا ما نفتقده كثيرا اليوم.

حين عاد إلى مصر، لم يضع دقيقة واحدة، بل بدأ معركته الوطنية كأنه كان يعد لها طوال حياته، لم يكن له حزب ولا منصب ولا مال، لكنه كان يمتلك شيئا لا يشترى: إيمان مطلق ببلده وثقة كاملة في قدرتها على النهوض. 

أسس جريدة «اللواء» لتكون منبرا يواجه الاحتلال ويوقظ المصريين، وأصبحت الجريدة صوت الأمة لسنوات طويلة، كان يكتب في «اللواء» مقالات تبعث الحمية في النفوس، وتعيد للناس شعورهم بأنهم قادرون على المقاومة، وأن الاحتلال مهما بدا قويا فهو هش أمام إرادة شعب موحد.

حادثة دنشواي كانت لحظة فارقة في تاريخ مصر، وربما لم تكن لتذكر اليوم بتلك القوة والوضوح لولا مصطفى كامل، لم يكن ما حدث مجرد واقعة مؤسفة، لكنه رأى فيها فرصة ليكشف وجه الاحتلال القبيح أمام العالم. 

وفي وقت كانت فيه الصحافة البريطانية تشوه المصريين وتبرر جرائم استعمارها، وقف مصطفى كامل، شابا لم يتجاوز الثلاثين، يفضحهم في أوروبا كلها، استطاع بقوة حجته أن يدفع اللورد كرومر نفسه إلى الاستقالة، وهو إنجاز سياسي لم يكن ليتحقق لولا صلابة هذا الشاب المصري العنيد.

لكن ما يجعل مصطفى كامل مختلفا عن غيره من الزعماء، في رأيي الشخصي، ليس فقط نضاله السياسي، بل إيمانه بأن التعليم هو الطريق الوحيد لبناء وطن قوي. 

لم يكن يرى التعليم مجرد كتب ودروس، بل كان يرى فيه تربية وصناعة إنسان جديد؛ إنسان يعرف تاريخه، ويحترم وطنه، ويعي واجبه. 

ومن هنا جاءت دعوته لتأسيس الجامعة المصرية، التي بنيت بعرق الناس وتبرعات الفقراء والأغنياء، لا بقرارات حكومية ولا أموال أجنبية، كانت جامعة خرجت من قلب الشعب، وبهذا المعنى كانت امتدادا مباشرا لروح مصطفى كامل.

رحل مصطفى كامل شابا في الرابعة والثلاثين، لكنه ترك لنا ما هو أهم من العمر الطويل: ترك لنا الإلهام، ترك لنا نموذجا لزعيم يعيش للناس، لا لنفسه، ترك لنا فكرة أن الوطنية ليست خطبا حماسية ولا صورا تعلق على الجدران، بل عمل يومي شاق، وإيمان عميق، وصوت لا يتوقف. 

نحن اليوم، ونحن نقرأ سيرته، لا نكتفي بإعجاب التاريخ، بل نشعر أننا أمام دعوة مستمرة: أن نحب بلدنا كما أحبها هو، وأن نؤمن أن مصر تستحق دائما الأفضل، وأنها لا تنهض إلا حين يتحد أبناؤها، تماما كما كان يريد، لقد مات مصطفى كامل، لكنه ترك فينا شيئا لا يموت… شعلة لا تنطفئ، وصوتا يردد في كل جيل: لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس.