الأوبرا المصرية.. صوت الوطن وجسر الوعي الفني
تمر علينا هذه الأيام ذكرى تأسيس دار الأوبرا المصرية، التي ولدت في الأول من نوفمبر عام 1869 بأمر من الخديوي إسماعيل، لتكون يومها منارة فنية تنير سماء القاهرة وتعلن أن مصر، منذ ذلك التاريخ، لم تكن مجرد دولة تتلقى الفن، بل تصنعه وتصدره وتمنحه روحا ومعنى.
صحيح أننا نكتب اليوم في ديسمبر، لكن للذاكرة موعدها الخاص، لا تقيدها التواريخ، لأن ما يبنى على الحلم لا يقاس بالأيام، بل بما تركه فينا من أثر ووجدان.
أحب أن أكتب عن دار الأوبرا المصرية لا كصحفي يرصد حدثا، بل كمواطن يرى فيها جزءا من ملامح وطنه الجميل، فمنذ أن تأسست الأوبرا الخديوية في قلب القاهرة، كانت شاهدا على لحظة ميلاد جديدة للوعي الفني المصري.
مبناها الأول، الذي شيد على الطراز الإيطالي خلال ستة أشهر فقط، كان كأنه صرح للحلم، حمل على خشبته أولى عروض "عايدة"، وجمع بين عبقرية الشرق وذوق الغرب في لوحة واحدة تجسد روح مصر المنفتحة على العالم، دون أن تفقد أصالتها.
لكن الأوبرا، مثل الوطن، لم تسلم من لحظات الحزن، فقد التهمت النيران مبناها القديم عام 1971، فبكى المصريون كما لو كانوا فقدوا جزءا من ذاكرتهم.
إلا أن مصر لا تعرف الانكسار، وسرعان ما قامت من رمادها، لتعيد افتتاح دار الأوبرا الجديدة في أكتوبر 1988، بمنحة من الحكومة اليابانية، وكأن العالم يعترف بأن مصر تستحق هذا الصرح الثقافي الذي يعكس ريادتها الفنية والحضارية.
منذ طفولتي وأنا أسمع عن الأوبرا كرمز للفن الراقي، مكان يجمع بين الصبر والمثابرة والإحساس العميق، حيث يتدرب الفنان على صوته وموسيقاه ليصل إلى الجمهور بروحه كاملة.
الفن في مصر لم يكن يوما ترفا، بل كان دائما مرآة للوجدان ووسيلة للتعبير عن همومنا وأحلامنا، على مسارح الأوبرا وداخل قاعاتها ولدت أعمال تلامس القلب، تعلم الناس كيف يحبون بلادهم بصدق، وكيف يكتشفون أنفسهم في تفاصيل الفن وجماله المؤثر.
الفن الحقيقي لا يغني عن الوطن، لكنه يغني له، حين يقف العازف على الخشبة أو يعلو صوت المطرب في مقطوعة خالدة، يشعر كل من في القاعة أن هذا الوطن أكبر من السياسة وأبقى من الخلافات.
الفن هو اللغة التي يتحدث بها المصريون حين تضيق اللغة السياسية، وهو الذاكرة التي تحفظ ملامحنا من التلاشي، وربما لهذا السبب ظلت الأوبرا المصرية رمزا لوجه مصر المشرق، المتحضر، القادر على جمع الناس حول الجمال مهما اختلفت اتجاهاتهم.
أتذكر وأنا أتعلم في مدرسة الوفد، تلك المدرسة التي غرست فينا حب الوطن وتراب الوطن، كيف كانوا يحدثوننا عن مصر التي لا تعرف اليأس، عن مصر التي حين تكسر تنهض، وحين تنسى تغني من جديد لتذكر العالم بوجودها.
ومن يومها وأنا أؤمن أن الفن جزء من معركة الوعي، وأن الأوبرا المصرية ليست مجرد مسرح، بل مدرسة للوطنية والذوق الرفيع، فكل نغمة تخرج منها هي في الحقيقة نشيد من أناشيد الوعي، وكل عرض يقام فيها هو خطوة في طريق بناء الإنسان المصري الجميل الذي يرفض القبح والسطحية.
ولأن الأوبرا لا تعيش بالمباني فقط، بل بالبشر الذين يمنحونها روحها، علينا أن نحافظ عليها كما نحافظ على آثارنا العظيمة، فالفن، في النهاية، هو ما يصنع وجدان الأمة، وما يرسي قيم الجمال في النفوس.
دار الأوبرا المصرية لم تكن مجرد مؤسسة ثقافية، بل كانت ولا تزال بيتا للفكر والإبداع والوجدان، من داخلها خرجت أجيال من المبدعين حملوا اسم مصر إلى كل عواصم العالم، فغنت القاهرة من فوق مسارح فيينا وميلانو وباريس، وتحدث عنها العالم بإعجاب وفخر.
اليوم، ونحن نحتفل بمرور أكثر من قرن ونصف على ميلاد هذا الصرح العظيم، علينا أن نتذكر أن الفن هو الجسر الذي يعبر به الوطن نحو المستقبل.
فحين نقدر الفن ونرعاه، فإننا نحمي وعينا الجمعي من التشويه ونزرع في أبنائنا معنى الانتماء الحقيقي، مصر التي أنشأت أول دار أوبرا في الشرق الأوسط وأفريقيا عام 1869، ما زالت حتى اليوم تصدر الثقافة والوعي، وتعلم العالم أن القوة ليست في السلاح وحده، بل في الصوت الذي يصدح بالحق والجمال.
ربما تبدو الذكرى بعيدة في التاريخ، لكن أثرها فينا حي لا يموت، كل مرة تضاء فيها أنوار الأوبرا، ينبض معها قلب مصر كله، وكأنها تذكرنا بأن وطننا ما زال يكتب فصوله الأجمل بالحرف والنغمة واللحن.
الأوبرا ليست مجرد رمز للفن الراقي، بل هي ذاكرة حية للوجدان المصري، مصدر إلهام ودفء يجعلنا نحلم دائما بوطن أجمل، وبغد يستحق أن يملأه صوت الموسيقى المصرية الخالدة التي تعيد إلى الروح معناها، وإلى القلب سلامه.