حين اختار الوفد شرف الوطن فوق كل شيء
في صباح يوم 23 نوفمبر 1924، اهتزت القاهرة بخبر اغتيال القائد العام للجيش البريطاني في مصر والسودان، السير لي ستاك، حدث جسيم لم يكن مجرد جريمة سياسية.
بل كان نقطة تحول حقيقية في تاريخ مصر الحديث، إذ ألقى بظلاله على العلاقة بين مصر وبريطانيا، وأشعل أزمة دبلوماسية شديدة بين سعد زغلول، رئيس الوزراء آنذاك، وبين الحكومة البريطانية، كانت مصر تقف على مفترق طرق؛ بين الاستسلام لمطالب القوة الاستعمارية أو الدفاع عن كرامتها وحقوقها الوطنية.
سعد زغلول، قائد الحركة الوطنية المصرية وزعيم الوفد، كان في موقف صعب، لكنه اختار أن يضع كرامة الوطن فوق كل اعتبار، رفض الاعتذار لبريطانيا، رافضا إذلال مصر أمام أعين العالم، مطالبا بجلاء القوات البريطانية، وهو موقف يعكس حجم الإرادة الوطنية وحب الوطن العميق.
بالطبع، تحت ضغط الأحداث والتعقيدات السياسية، وافق على تعويض مالي، لكنه لم يرضخ ولم يتنازل عن كرامة مصر، وفي النهاية، قدم استقالته، معلنا أن مصر ليست مجرد مستعمرة، وأن كرامة شعبها ليست للبيع أو للمساومة.
ما تعلمته عن هذه الفترة من تاريخنا الوطني، وما شعرت به وأنا أقرأ عن مواقف سعد زغلول، يعكس دروسا عظيمة عن حب الوطن، أنا تعلمت على مدرسة الوفد، تلك المدرسة التي غرس فيها القادة الأوائل فينا معنى الانتماء الحقيقي للوطن، معنى التضحية لأجله، وعدم السماح لأي قوة خارجية أن تمس تراب مصر أو تحاول النيل من إرادة شعبها.
كل خطوة اتخذها زغلول وكل كلمة نطق بها كانت بمثابة درس في الوطنية، درس عن أن حب الوطن ليس شعارات على جدران، بل قرارات شجاعة تتطلب مواجهة الخطر أحيانا، وتحمل التحديات مهما عظمت الضغوط.
اغتيال لي ستاك لم يكن مجرد حادث عابر، بل كان اختبارا حقيقيا لموقف مصر السيادي، موقف سعد زغلول يظهر لنا اليوم أن الحفاظ على استقلال القرار الوطني في السياسة الخارجية ليس رفاهية، بل ضرورة حتمية لبقاء الدولة ككيان محترم ومؤثر في محيطه.
حين ننظر إلى مواقف القيادة المصرية الحالية، نرى صدى هذه الدروس القديمة؛ نفس الصلابة في الدفاع عن السيادة، ونفس الإصرار على أن تكون مصر حرة في قراراتها، لا تتأثر بالضغوط الخارجية، وأن تحافظ على مصالحها قبل أي شيء.
إن قراءة هذه الأحداث تجعلنا نعيد النظر في مفهوم الوطنية الحقيقي، الوطنية ليست مجرد كلمات نرددها في الاحتفالات أو المناسبات، بل هي تصرفات يومية، هي مواقفنا في العمل، في السياسة، في المجتمع، هي فهمنا أن تراب مصر لا يمكن أن يكون مجرد ورقة مساومة في أي مفاوضات.
سعد زغلول علمنا أن الاعتراف بالحق، وأن الدفاع عن الكرامة الوطنية، أسمى من أي تعويض مالي أو مكسب مادي، وأن الاستقالة في وقت الحاجة ليست ضعفا، بل قوة وشجاعة لمن لا يريد أن يساوم على كرامة وطنه.
اليوم، وأنا أتأمل تلك اللحظات، أشعر بدفء ووجدان شديدين تجاه كل من اختار أن يقف شامخا أمام الاستعمار، تجاه كل من ضحى براحته أو منصبه من أجل الوطن.
تعلمت أن حب الوطن يبدأ من الفهم العميق لتاريخه، لفكره، لرموزه، وأن مدرسة الوفد التي نشأت فيها ليست مجرد تاريخ يدرس، بل منهج حياة، طريقة في التفكير والتصرف، تعلمنا أن العزة الوطنية لا تمنح، بل تسترد بمواقف واضحة وشجاعة حقيقية.
في النهاية، اغتيال لي ستاك وقفة سعد زغلول أمام بريطانيا ليست مجرد صفحات في كتب التاريخ، بل هي رسائل حية لكل المصريين عبر الأجيال: أن الوطن أغلى من كل شيء، وأن السيادة ليست شعارا يكتب على الأوراق، بل موقف يمارس على أرض الواقع.
علينا أن نستلهم هذه الدروس في حياتنا اليومية، في دعم القيادة الوطنية، في فهم أن حماية مصالح مصر واستقلال قرارها ليس خيارا، بل واجب مقدس.
كل مرة أتذكر تلك اللحظة التاريخية، أشعر بالفخر والامتنان لكل من اختار أن يضع الوطن فوق كل اعتبار، وأن يعلم الأجيال معنى الكرامة والسيادة.
تعلمت أن الوطنية ليست شعارات نرددها، بل أفعال تظهر عشقنا لتراب هذا الوطن، وأن كل جيل يحمل مسؤولية الدفاع عن حرية مصر وكرامتها، بنفس الشجاعة والعزم الذي كان عليه سعد زغلول في مواجهة القوى التي أرادت أن تذل مصر.
وهكذا، يظل درس الوفد حيا في وجداننا، يذكرنا دائما أن حب الوطن يبدأ من القلب، ويستمر بالعمل، ويستمر بالعطاء، ويستمر بالشجاعة على المواقف الصعبة.