بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

حسين الجندي باشا وحكاية آخر وزراء العهد الملكي

حين نتحدث عن وزارة الأوقاف في مصر، لا يمكن أن نتجاوز ذكر شخصية استثنائية مثل حسين محمد الجندي باشا، الذي تولى الوزارة في الفترة من 24 سبتمبر 1951 حتى 27 يناير 1952، أي في فترة قصيرة لكنها كانت حافلة بالأثر العميق، خاصة وأنها جاءت في آخر أيام العهد الملكي، حيث كانت مصر تمر بمرحلة دقيقة في تاريخها السياسي والاجتماعي. 

الجندي باشا لم يكن مجرد وزير عابر، بل كان شخصية متفردة في دمج الحزم التنظيمي بالاهتمام الديني العميق، مما جعله يترك بصمة واضحة في تاريخ وزارة الأوقاف.

حسين محمد الجندي كان عضوا بارزا في مجلس الشيوخ، وأثبت جدارته في متابعة القضايا الملحة التي أثارها "الكتاب الأسود"، مما أكسبه سمعة قوية بين السياسيين والمثقفين على حد سواء. 

وعند تعيينه وزيرا للأوقاف، كان يشغل منصب وكيل مجلس الشيوخ، وهو ما منح قراراته صفة الرسمية والرصانة، وقدرة على تنفيذ رؤاه دون تردد.

أولى الجندي باشا اهتمامه الجاد بالجانب التنظيمي، وكان يرى أن التعليم الديني لا يكتمل إلا بضبط دقيق للشروط واللوائح، ومن أهم قراراته كان القرار رقم 8، الذي حدد أعداد طلبة العلم في دار التعليم التابعة لوقف محمد بك أبو الدهب ووقف الكلشني، ووضح شروط قبولهم بدقة، مع مراعاة الحالة الصحية للطلاب وسعة المكان. 

لقد كان هدفه أن يكون التعليم دينيا متينا ومنظما، لا يترك الأمر للصدفة أو للارتجال، وأن يضمن أن الطلاب الغرباء المنتسبين للأزهر وكلياته يحصلون على بيئة مناسبة للعلم والتربية الدينية.

وبجانب التنظيم، لم يغفل الجندي باشا الجانب المالي والإداري للوزارة، فأصدر القرار رقم ٤ لتجنب الملاحظات المالية لديوان المحاسبة، وألغى القرار الوزاري رقم 6 بخصوص صندوق القرض الحسن، مؤكدا بذلك حرصه على الشفافية والكفاءة في إدارة أموال الوقف، دون أي تهاون أو تسيب.

أما في شؤون الدعوة إلى الله، فقد أظهر الجندي باشا تقديرا كبيرا للبعد الروحي والالتزام الديني، فحدد بدقة ضوابط استخدام مكبرات الصوت في الأوقات الخمسة للصلاة، وحرص على أن تكون مكبرات الصوت في صلاة الجمعة مخصصة للاستماع فقط من داخل المسجد، مع تجنب أي إساءة أو إفراط. 

ولم ينس أن يحرص على الروح الوطنية في الدعاء، فأذاع المنشور رقم 17 بنص الدعاء للملك، مؤكدا احترام الدولة ورمزها، ومعززا للوطنية في نفوس الناس.

ما يجعل شخصية حسين محمد الجندي باشا مميزة هو الجمع بين الجرأة في الإصلاح والتنظيم من جهة، وبين حساسية دينية ووطنية من جهة أخرى. 

لم يكن مجرد وزير ينفذ القرارات بروتوكوليا، بل كان يرى في كل قرار يصدره خدمة للمجتمع والدين والوطن في آن واحد، شخصيته تجسد نموذجا نادرا للوزير المصري الذي يوازن بين الحزم والتنظيم وبين الروح الوطنية والالتزام الديني، ويترك إرثا يمكن للمتابعين أن يتعلموا منه الكثير.

صحيح أن فترة ولايته لم تدم طويلا، لكنها كانت كافية ليترك بصمة واضحة، تجعلنا نتذكره ليس فقط كوزير أوقاف في آخر أيام العهد الملكي، بل كرمز للمسؤولية الوطنية والالتزام الديني والحرص على الإصلاح الجاد. 

وهنا يكمن الدرس الذي يمكن أن نستخلصه اليوم: أن الإصلاح الحقيقي يتطلب إرادة، وضبطا إداريا، ووعيا دينيا، وحبا للوطن، وكل هذه الصفات كانت في حسين محمد الجندي باشا، الرجل الذي صنع من فترة قصيرة زمنا طويلا في أثره، وأثبت أن المسؤولية الوطنية لا تقاس بالزمن، بل بالعمق والإخلاص والجرأة في اتخاذ القرار.