علي باشا مبارك.. مهندس النهضة المصرية وأسرار النجاح
ظل اسم علي باشا مبارك حاضرا في الوجدان الوطني المصري، لا باعتباره واحدا من رجال الإدارة فحسب، بل باعتباره رمزا لنهضة صادقة آمنت بأن إصلاح الوطن يبدأ من العلم، وأن العلم لا يقف على قدمين إلا إذا سنده نظام مالي وإداري نزيه وقادر.
كان علي باشا من تلك الشخصيات التى نشأت من رحم الريف المصري، من قرية برنبال بالدقهلية، لكنها حملت طموحا أكبر من حدود القرية وأوسع من زمنها نفسه، فشقت طريقها من مدرسة أبو زعبل إلى المهندسخانة، ثم إلى أوروبا، لتعود محملة بمعرفة تؤمن مصر بأنها قادرة على أن تملك مشروعها النهضوي الخاص.
وما إن عاد من بعثته إلى باريس حتى وجد نفسه جزءا من ماكينة بناء دولة تبحث عن ذاتها، وتريد أن تقف على قدميها دون اتكاء على أحد.
تنقل بين المهام والرتب، من مدرسة متز لتحصينات الجيوش، إلى سلك الآلاي الثالث، ثم ناظرا لمدرسة طرة، ثم رئاسة ديوان المكاتب الأهلية، إلى أن صار عضوا في المجلس المخصوص ورئيسا للأشغال الهندسية.
لكن اللحظة الفارقة في مسيرته كانت حين أسندت إليه نظارة الأوقاف والمعارف العمومية في نهايات القرن التاسع عشر، في زمن كانت مصر فيه تشق طريقها نحو الدولة الحديثة، وتصارع لتبني مؤسسات قادرة، مستقلة، وذات رؤية.
ما فعله علي باشا في الأوقاف كان ثورة صامتة بكل معنى الكلمة؛ فقد استطاع أن يحول الأوقاف من مال مهدر أو راكد إلى مصدر قوة اقتصادية تمول التعليم وتبني المدارس وتعيد توظيف الأراضي والعقارات بما يخدم الوطن لا الأفراد.
كان يؤمن أن الوقف ليس مجرد مال محفوظ، بل أداة من أدوات النهوض إذا أدير بوعي ونزاهة، لذلك وجه إيراداته نحو دعم المكاتب والمدارس، وأوجد تكاملا ذكيا بين إدارة التعليم وإدارة الوقف، حتى أصبحت أموال الوقف سندا حقيقيا لمسيرة التنوير.
وقد سجل ذلك في مذكراته بعبارة لا تزال تضيء: "صار أمر التعليم في المكاتب ملحوظا بعين المدارس… وسهلنا انتقال المتعلمين منها إلى المدارس التجهيزية والعالية، " تلك الرؤية التي تجعل التعليم حقا وممرا مفتوحا أمام أبناء الشعب، بلا طبقية ولا أبواب مغلقة.
ولم يكتف بإصلاح المدارس، بل أعاد النظر في كل ما يتصل بالأوقاف من مساجد وتكايا وعقارات، فأطلق حملات لإحياء ما كان مهملا، وأنشأ مأموريات في أثمان القاهرة، وربط كل مأمور بمنظومة رقابية صارمة، ليضمن أن كل قرش يصل لخزينة الوقف.
كان حازما مع المتقاعسين، لكنه كان عادلا، فلم يكن يقبل أن تترك أموال الأمة دون حساب، وقد أحدث نقلة كبرى حين نقل أعمال عمارة الأوقاف من "الدفاتر والبيروقراطية" إلى نظام المقاولات المدروس، برسومات وهندسة وتقديرات واضحة، لتكون الأموال مصروفة في مواضعها، لا عبثا ولا محاباة.
ومع المدن، أظهر رؤية عمرانية سبقت زمنها؛ فقسم الأراضي الخربة، مثل أراضي السيدة زينب، وطرحها للحكر بشروط تحفظ حق الوقف، فصارت بعد أن كانت مقالب للقمامة مناطق عمران وبيوتا وأسواقا تدر ريعا وتبنى حياة.
أما في الأقاليم، فقد أرسل المهندسين المتعلمين ليحصروا أطيان الوقف، ويضبطوا الريع والمصروفات، فتضاعفت العوائد وتحسنت الإدارة إلى حد غير مسبوق.
لم يكن علي باشا مجرد ناظر، بل كان رجل دولة بنبض مصري صادق، يرى الوطن في كل مسجد رمم، وفي كل مكتب أصلح، وفي كل طالب وجد طريقه للتعلم.
ترك لنا مؤلفاته و"الخطط التوفيقية" شاهدة على ذهن موسوعي، لكنه قبل كل شيء ترك نموذجا للمسؤول الذي يعتبر المنصب رسالة لا مكسبا.
ورحل في نوفمبر 1893.م، لكنه ترك مصر أكثر وعيا بذاتها، وأقرب إلى حلم النهضة الذى عاش عمره كله يخدمه، ولو كان بيننا اليوم، لابتسم بفخر وهو يرى أن بذور جهده ما زالت تنبت، وأن مصر لا تزال قادرة على أن تنهض بأبنائها الذين يؤمنون كما آمن هو: أن خدمة الوطن شرف لا يعلوه شرف.