مصطفى باشا النحاس.. الرجل الذي تحدى الاحتلال وأعاد مصر
مصطفى باشا النحاس، الرجل الذي جمع بين المحاماة والقضاء، والذي ترك بصماته الواضحة في تاريخ مصر السياسي في القرن العشرين، هو نموذج للفكر الوطني النظيف والممارسة العملية المخلصة للوطن.
ولد في 15 يونيو 1879 بسمنود بمحافظة الغربية، في أسرة ميسورة الحال، والده محمد النحاس كان تاجرا مشهورا، ومن هنا نشأ مصطفى على قيم الاجتهاد والنزاهة.
تعلم القرآن في كتاب القرية، وعندما بلغ الحادية عشرة أرسله والده للعمل في مكتب التلغراف، وهناك أذهل الجميع بسرعته في حفظ الرموز وإتقان العمل.
هذا التفوق لفت انتباه أحد المستشارين إلى والده، فكان السبب في انتقال مصطفى إلى القاهرة والتحاقه بالمدرسة الناصرية الابتدائية، ثم المدرسة الخديوية الثانوية، وأخيرا كلية الحقوق حيث تخرج عام 1900، متفوقا ومحققا مركزا متقدما بين زملائه.
اختار النحاس العمل الحر كمحام رغم عرض العمل بالقضاء، فعمل في البداية مع الزعيم الوطني محمد فريد، ثم أصبح شريكا للمحامي المشهور محمد بك بسيوني في المنصورة، ليظل في المحاماة حتى عام 1903، قبل أن يقبل في النهاية عرض العمل بالقضاء ويبدأ مسيرته كمحام وقاض شاب طموح.
تولى عدة مناصب قضائية في قنا وأسوان وميت غمر وطنطا، وكان يحصل على احترام الجميع لعدالته ونزاهته، لكنه لم ينس وطنه، وكان قلبه دائما مشدودا للقضية الوطنية.
ارتبط اسمه بالحياة السياسية بعد إعلان الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون للمبادئ الأربعة عشر، حيث ألهمت فكرة حق الشعوب في تقرير مصائرها النحاس، الذي كان حينها يعمل قاضيا بمدينة طنطا.
تواصل مع سعد زغلول ومجموعة من الوطنيين لتشكيل وفد مصري يمثل مصر في مؤتمر الصلح بباريس بعد الحرب العالمية الأولى، وكانت مساهمته حاسمة في تأسيس حزب الوفد وتولي منصب سكرتير عام الحزب، ليصبح أحد أعمدته الوطنية الأساسية.
خلال ثورة 1919، لم يكتف النحاس بالعمل القانوني أو القضائي، بل كان جزءا من حركة الشارع الوطني، حيث نظم الإضرابات ونقل المنشورات السياسية بين المحافظات، متحديا سلطات الاحتلال البريطاني بشجاعة ونزاهة.
وفصله الاحتلال عن منصبه كقاض لم يضعف عزيمته، بل زاده تصميما على الدفاع عن وطنه، حتى أصبح لاحقا سكرتيرا عاما للوفد ومؤسسا لمكتب للمحاماة بعد عودة أعضاء الحزب من باريس.
وعندما ترأس حزب الوفد بعد وفاة سعد زغلول، أظهر النحاس حكمة سياسية نادرة، وكان العقل الذي يوازن بين التحديات الداخلية والضغوط الأجنبية، فقد تولى رئاسة الوزارة سبع مرات، وهو رقم قياسي لم يسجله أحد قبل ذلك، وكان لكل وزارة تجربة جديدة في مواجهة الاحتلال الإنجليزي والمراوغة الملكية.
ومن أشهر مواقفه الوطنية رفضه تشكيل وزارة ائتلافية تحت ضغط الإنجليز عام 1942، وتقديمه خطاب الاحتجاج للسفير البريطاني، موقف يظهر صلابته ووفاءه لدستورية مصر وسيادتها، وكذلك إقدامه على إلغاء معاهدة 1936 في البرلمان عام 1951، موقف جسد فيه شجاعة الدولة والمطالبة بحقها الطبيعي في الجلاء والسيادة.
حياة النحاس كانت مليئة بالنضال السياسي والفكري والاجتماعي، فقد ساهم في تأسيس جامعة الدول العربية، وحافظ على نزاهته الشخصية ومصداقيته أمام الشعب حتى بعد خروجه من العمل السياسي.
وعلى الرغم من محاولات انقلاب الثورة على الأحزاب السياسية عام 1952 واعتقاله لاحقا، ظل محبوبا بين المصريين الذين شاركوا في جنازته بالملايين، تقديرا لمسيرته الوطنية الطويلة وأخلاقه التي لا تشوبها شائبة.
مصطفى النحاس ليس مجرد اسم في كتب التاريخ، بل هو رمز للنزاهة الوطنية، رجل القانون والسياسة، الذي جمع بين العقل الواعي والوجدان الوطني، وعاش حياته كلها في سبيل مصر.
قصته تذكرنا بأن حب الوطن لا يقتصر على الكلمات، بل يظهر في الأفعال، في الشجاعة، وفي الالتزام بالمبادئ مهما كانت الظروف، وترك لنا درسا خالدا في الوطنية والوفاء للشعب والحق.
إن دراسة حياة النحاس تعطي درسا لكل مصري، بأن الخدمة الحقيقية للوطن تحتاج إلى صدق وإخلاص وعمل دؤوب، وأن التاريخ يحفظ مكانة من يجمع بين العلم والعمل والوفاء للأرض والشعب.