عبدالعزيز جاويش .. شيخ الصحافة ورمز الوطن المنسي
الشيخ عبدالعزيز جاويش، ذلك الاسم الذي يضيء صفحات تاريخ مصر في مطلع القرن العشرين، كان أكثر من مجرد صحفي أو أستاذ، كان رمزا للحركة الوطنية، وصوت الحق الذي لم يخف أمام الاحتلال، وجسور التربية التي ربطت بين العلم والدين والوطنية.
ولد في الإسكندرية في 31 أكتوبر 1876 لأب تونسي وأم تركية، وفي قلبه منذ الصغر عشق للعلم أكثر من التجارة التي كان والده يطمح له أن يورثه إياها.
حفظ القرآن الكريم صغيرا، ودرس في مسجد إبراهيم باشا، ثم انتقل إلى الأزهر ليصقل علمه، قبل أن يلتحق بمدرسة دار العلوم حيث بدأ يظهر نبوغه الأدبي والسياسي.
بعد تخرجه عام 1897، عمل مدرسا في مدرسة الزراعة، لكن قدره كان أكبر من حجرة الصف، فاختير للسفر إلى بريطانيا ليدرس في جامعة بروردو علوم التربية الحديثة، ويستفيد من الأساليب الغربية في التعليم، ومن هناك حصل على خبرة لا تعوض، فتقن اللغة الإنجليزية والفرنسية، وتعرف على المناهج الغربية، وعاد إلى مصر عام 1901 ليبدأ مهمته في إصلاح التعليم كأول مفتش بوزارة المعارف، مصمما على تطوير أسلوب التدريس القائم على الحفظ والتلقين.
أصدر جاويش في تلك الفترة كتبه الشهيرة "غنية المؤدبين" و"مرشد المترجم"، مؤلفات تربوية كانت بمثابة نقلة نوعية في منهجية التعليم، وفكر تربوي يواكب العصر، بعيدا عن الجمود التقليدي.
لكن شغف جاويش لم يتوقف عند التعليم، فقد امتلك موهبة الصحافة منذ نعومة أظافره، فكان يكتب في جريدة "اللواء" منذ أيام الدراسة، ليصبح لاحقا رئيس تحريرها بعد وفاة مصطفى كامل، ويواصل نشر أفكار الحركة الوطنية ومواجهة الاحتلال البريطاني عبر صفحات الصحافة الوطنية.
لم يكن طريقه سهلا، فقد واجه المحاكمات والسجن بسبب مقالاته ومقدماته لدواوين وطنية، كما حدث مع ديوان "وطنيتي" للشاعر علي الغاياتي، فحكم عليه بالسجن ثلاث شهور، لكنه لم يضعف، بل زاده ذلك إصرارا على الدفاع عن الوطن والحق.
ومع صعوبة الظروف السياسية، أجبر جاويش على المنفى، فهاجر إلى تركيا، وهناك واصل نشاطه الصحفي وأصدر مجلات وصحفا وطنية وعربية، مدافعا عن الإسلام واللغة العربية، ورافضا الانصهار الأعمى للغرب.
لكنه لم ينس إصلاح التعليم، فأسس المدارس الليلية للإعدادية، واهتم بالجامعات الإسلامية في المدينة المنورة والقدس الشريف، ودرس اللغة العربية في أكسفورد وكامبردج، في مسيرة علمية قل أن يجمعها رجل واحد.
ورغم هذا الإشعاع العلمي، لم يكن جاويش بعيدا عن روح الوطن المصرية، لكنه كان يرى أن نهضة الأمة مرتبطة بمرجعية دينية حقيقية، فكان من دعاة الخلافة العثمانية، وكتب في هذا الشأن بعنف أحيانا، مما أدى إلى احتكاكه بالمكونات الاجتماعية المختلفة، فتعرض لانتقادات، خاصة مقالاته التي أعتبرت محرضة على الانقسام الطائفي، فاضطرت اللجنة الإدارية للحزب الوطني إلى التبرؤ من بعض كتاباته.
لكن التاريخ يقر له أنه كان على الدوام يسعى لخير الأمة من وجهة نظره، ولم تتوقف جهوده عن الإصلاح الاجتماعي، فكان يدعو إلى تعليم المرأة، وإقامة مصرف وطني، ومحاربة الخمر، ورفع شأن التربية والتعليم، والعمل الخيري من خلال جمعية المواساة التي أسسها وما زالت تعمل حتى اليوم.
لم يكن عبد العزيز جاويش مجرد شخصية سياسية أو صحفية، بل كان حالة نادرة تجمع بين الثقافة الغربية والتمسك بالهوية الإسلامية، بين الوطنية والإصلاح الاجتماعي، بين الجدية في العلم والجرأة في مواجهة الاحتلال.
كان صوته دائما في "اللواء" ومنابر الصحف والمجلات يشعل روح الوطنية ويزرع في النفوس معنى المسؤولية والكرامة، حتى أن الشعب نفسه احتفل به بعد إفراج السلطات عنه ومنحه وساما تقديرا لجهوده.
رحل جاويش في 25 يناير 1929، تاركا خلفه إرثا من العلم والوطنية، وقصصا من المحاكمات والمقاومة الصحفية، وأجيالا تعلمت من جهوده أن الوطن يحتاج إلى قلم صادق، إلى فكر منفتح، وإلى قلب لا يعرف الخوف في سبيل الحق.
وقد يختلف الناس اليوم في تقييمه السياسي، لكن لا أحد يستطيع إنكار أن عبد العزيز جاويش كان بحق شيخا أزهريا، ومربيا، وصحفيا، وطنيا، ترك أثره في تاريخ مصر الحديث، وما زالت قصصه ودروسه حية في ذاكرة الأمة، تلهم كل من يريد أن يصنع الفارق.