بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

ممتاز نصار.. أسطورة البداري الذي أوقف بيع الأهرامات وحده

منذ يومين حلت الذكرى السنوية لرحيل المستشار ممتاز نصار، الرجل الذي لا يمكن أن يمر اسمه على أذن أي مصري دون أن تتحرك داخله مشاعر احترام خالص. 

ليس لأن الرجل كان قاضيا فحسب، ولا لأنه كان نائبا بارزا في البرلمان، بل لأنه كان - ببساطة - ضميرا حيا عاش بيننا ومضى، لكنه لم يغادر وجدان هذا الوطن لحظة واحدة. 

وبرغم مرور عقود على رحيله في 14 أبريل 1987، فإن سيرته ما زالت تتجدد كلما اشتد الظلام أو تاهت البوصلة، لأن أسماء مثل ممتاز نصار خلقت لتكون منارات، لا مجرد صفحات مطوية في كتاب التاريخ. 

ولد الرجل في 9 نوفمبر 1912 بقرية البداري في أسيوط، تلك البلدة التي أنجبت رجالا يعرفون معنى الشرف، لكنه لم يكتف بأن يكون واحدا من أبنائها، بل قرر أن يحملها معه في كل خطوة من حياته، ويحمل معها مصر كلها، ويضع اسمه في مقدمة الذين اختاروا طريق العدل مهما كلفهم ذلك من ثمن. 

وعلى الرغم من تفوقه الذي كان يتيح له الالتحاق بالنيابة فور تخرجه من كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول، إلا أنه آثر أن يبدأ حياته المهنية محاميا، وكأن القدر يريد له أن يتعلم مبكرا معنى أن تقف وحيدا – وأحيانا أعزل – في وجه الظلم، ومعنى أن تدافع عن الحق بضمير لا يعرف المساومة.

ست سنوات قضاها في المحاماة قبل أن يلتحق بالقضاء، وهناك برز نجمه الحقيقي، فتدرج من النيابة إلى التفتيش القضائي، ثم إلى منصب مستشار بمحكمة الاستئناف فالنقض. 

وخلال هذه السنوات، لم يكن رجلا عاديا في محراب العدالة، بل كان واحدا من الوجوه التي تمسك بمبدأ استقلال القضاء كأنه الهواء الذي تتنفسه. 

ولذلك لم يكن غريبا أن ينتخب عضوا في مجلس إدارة نادي القضاة عام 1947، ثم سكرتيرا للنادي، قبل أن يصبح رئيسا له عام 1962، وحتى اللحظة التي وقعت فيها «مذبحة القضاة» عام 1969، حين حاولت السلطة إخضاع القضاء لسلطان السياسة، فكان نصار أول الواقفين، وأول الرافضين، وربما أول الذين دفعوا الثمن كاملا عندما أحيل هو ومعه مائتا قاض دفعة واحدة إلى المعاش. 

ومع ذلك لم ينكسر، ولم يتراجع، ولم يغير موقفه، خرج من القضاء مرفوع الرأس، وعاد إلى المحاماة ليبدأ فصلا جديدا من فصول النضال، لكن القدر كان يخفي له طريقا آخر: طريق البرلمان.

في عام 1976 ترشح لأول مرة لعضوية مجلس الشعب عن دائرة البداري، ففاز، ليس بفضل المال أو النفوذ، بل بثقة ناس عرفوا فيه رجلا حقيقيا يشبههم ويشبه أحلامهم. 

وعندما جاءت انتخابات 1979، كانت البلاد تمر بظروف سياسية عاصفة بسبب اتفاقية كامب ديفيد، وكان نصار واحدا من ثلاثة عشر نائبا فقط رفضوا تمريرها، فحل الرئيس السادات المجلس قبل انتهاء مدته، وكأن الصوت الحر في هذا الوطن دائما يزعج أصحاب الكراسي. 

لكن أهل البداري قدموا درسا للعالم كله: لم يتركوا رجلهم يسقط، خرجوا لحماية صناديقهم ووقفوا بالصدور العارية أمام محاولات التزوير، حتى عاد نصار إلى البرلمان فائزا مرة أخرى، وكأن الناس كانوا يعلنون أن الحق لا يهزم ما دام وراءه رجال.

لكن المشهد الأهم في حياة الرجل كان معركة هضبة الأهرام، كان مشروعا لبيع أراضي الهضبة لمستثمرين أجانب، في واحدة من أكثر لحظات الانفتاح الاقتصادي سوءا. 

يومها تكالب سماسرة الداخل مع طامعي الخارج، وتحولت مصر إلى ساحة مفتوحة لكل من يريد أن ينهش من لحم الوطن قطعة، لكن هناك دائما في هذا البلد من يعرف أن الأرض ليست مجرد تراب، وأن الآثار ليست مجرد حجارة، وأن مصر ليست للبيع. 

تصدى ممتاز نصار بكل ما يملك من أدوات برلمانية وقانونية، وتعاون مع الكاتبة الكبيرة نعمات أحمد فؤاد ونقابة المحامين، حتى انتزع حكما تاريخيا بوقف البيع، وحصل على خطاب تقدير من اليونسكو التي اعتبرته الرجل الذي أنقذ آثار مصر من الضياع. 

كان يوما من الأيام التي يشعر فيها المصري أن هذا الوطن ما زال بخير، وأن بيننا رجالا إذا وقفوا ارتجف الفساد، وإذا تكلموا خرس الباطل.

لم يكن نصار رجلا يملك في قلبه سوى مساحة واحدة للحقيقة، لا يجامل، لا ينافق، لا ينحني، ولذلك كانت استجواباته النارية في البرلمان حدثا ينتظره الناس ويتابعه السياسيون في الداخل والخارج. 

استجوب وزراء في قمة نفوذهم، وواجه فسادا كان البعض يظنه أقوى من الدولة نفسها، وعندما أصدر السادات «قانون العيب» الذي رآه كثيرون قانونا سيئ السمعة يمس أصول الدستور، كان نصار أول من وقف ضده، مؤكدا أن الحرية الشخصية حق طبيعي لا يجوز المساس به مهما كان المبرر.

والحقيقة أن الرجل لم يكن مجرد نائب معارض، بل كان نموذجا لمفهوم نادر في الحياة السياسية: المعارضة الوطنية الصادقة، التي لا تعارض من أجل الصخب، ولا تصرخ من أجل الظهور، وإنما تعارض لأنها تحب هذا البلد بعمق، وتدافع عنه كما يدافع الأب عن أبنائه. 

ربما لهذا السبب ظل محاصرا طوال عمره بمحاولات إقصاء وتغيير قوانين الانتخابات لإبعاده، لكنه كان يعود في كل مرة وكأنه قدر مكتوب على مصر: أن تحتفظ دائما ببعض الرجال الذين لا يشترون ولا يباعون.

واليوم، ونحن نتذكر المستشار ممتاز نصار، لا نتذكر مجرد رجل مات منذ سنوات، بل نتذكر قيمة غابت في زمن الصخب، وضميرا نفتقده في زمن يختلط فيه الحق بالباطل. 

نتذكر درسا سياسيا وقانونيا وأخلاقيا، يليق بوطن بحجم مصر، ويليق بتاريخ أمة لم تعرف يوما أن تنحني، ولعل أجمل ما يمكن قوله في ختام ذكراه، أن هذا الرجل عاش كما يجب أن يعيش الأحرار، ورحل كما يرحل الشرفاء؛ تاركا وراءه طريقا واضحا لمن يريد أن يخدم وطنه بلا خوف، وبلا مصلحة، وبلا انتظار مقابل.