محمد محمود باشا.. الزعيم الصعيدي واليد الحديدية التي صنعت مصر الحديثة
في رحاب تاريخ مصر الحديث، يبرز اسم محمد محمود باشا كرمز للوطنية، ورمز للصرامة الحزبية والسياسية، ولشخصية استطاعت أن تجمع بين العراقة الاجتماعية والثقافة العالمية، وبين العمل السياسي الجاد والإقدام في تحمل المسؤولية.
ولد محمد محمود في الرابع من إبريل 1878 في ساحل سليم بأسيوط، في صعيد مصر، ضمن أسرة لها جذور صعيدية وحجازية، عرفت بالعلم والاعتدال، وكان والده محمود باشا سليمان شخصية مرموقة في المجتمع المصري، وكيل مجلس شورى القوانين وواحدا من كبار ملاك الأراضي في الصعيد.
هذا المزيج بين الأصل الصعيدي والحضارة الغربية كان له أثر كبير في تشكيل شخصية محمد محمود باشا، فجمع بين حب الوطن والتمسك بالقيم المحلية، وبين الفهم العميق للسياسة العالمية.
تلقى محمد محمود تعليمه في أسيوط ثم بالقاهرة في المدرسة التوفيقية، قبل أن يسافر إلى إنجلترا ليلتحق بجامعة أكسفورد، حيث درس التاريخ، وكان من أوائل المصريين الذين تخرجوا من هناك، وهو ما منحه ثقافة إنجليزية متميزة، انعكست على قراراته السياسية لاحقا.
وبعد عودته إلى مصر، عمل في وزارتي المالية والداخلية، ثم أصبح سكرتيرا خاصا للمستشار الإنجليزي لوزير الداخلية، قبل أن يتدرج في المناصب حتى تولى إدارة محافظات كبرى مثل الفيوم والبحيرة.
لكن محمد محمود باشا لم يكن مجرد إداري ماهر، بل كان سياسيا فاعلا منذ بداياته، إذ شارك في ثورة 1919، وكان أول من اقترح تشكيل وفد للمطالبة بحق مصر في تقرير مصيرها وفق مبادئ الرئيس الأمريكي ولسن.
ومن هنا، وضع أسسا للعمل الوطني المنظم، وشارك في الاعتقالات والنفي إلى مالطة، تجربة صقلت عزيمته وجعلته أحد الرموز الأربعة الكبار الذين أشعلوا الثورة، وعززت مكانته في صفوف الوطنيين.
مع مرور الوقت، وانقسامات الأحزاب، انفصل محمد محمود عن بعض الوفديين ليؤسس مع عدلي يكن حزب الأحرار الدستوريين عام 1922، ليصبح لاحقا رئيسا له حتى وفاته.
كان هذا الحزب منافسا قويا للوفد بقيادة سعد زغلول، ورغم التحديات، ظل محمد محمود باشا شخصية محورية في الحياة السياسية المصرية.
تولى حقيبتي المواصلات والمالية قبل أن يصبح رئيسا للوزراء أربع مرات، أولها عام 1928، حين تولى أيضا وزارة الداخلية، واضعا يده على إدارة البلاد بصرامة.
اتسمت حكومته الأولى بسياسة "اليد الحديدية"، حيث أوقف الحياة النيابية لبعض الوقت، وأعاد العمل بقوانين المطبوعات القديمة، وأنذر الصحف بتعطيلها، ومنع الموظفين والطلاب من النشاط السياسي، رغم الانتقادات، كان هدفه الأساسي الحفاظ على الدولة ونظامها وسط صراعات سياسية معقدة.
وفي رئاسته الثانية والثالثة، استمر في استخدام القوة لضبط الحياة السياسية، حل البرلمان، وفصل الموظفين الموالين للوفد، وفرض سيطرته على الانتخابات، وهو ما أثار مظاهرات شعبية واحتجاجات.
لكن في المقابل، عزز هيبة الدولة وأعاد تنظيم الإدارة العامة، ووضع أسسا قوية للتعليم والجيش والبحرية، وأسهم في تأسيس جامعة الإسكندرية، ووضع قوانين ضرائب عادلة، واهتم بتطوير البنية التحتية والمواصلات، كل هذا يؤكد أن محمد محمود لم يكن مجرد رجل قوة، بل كان رجل رؤية واستراتيجية، يسعى لتأسيس دولة حديثة.
أما في وزارتها الرابعة، فقد حاول التوازن بين مختلف القوى الحزبية، لكنه اضطر للاستقالة بسبب ضغط القصر ومرضه، ليختتم مسيرة سياسية طويلة وغنية بالإقدام والتحدي، قبل أن يتوفى في الأول من فبراير 1941.
ترك إرثا سياسيا ومعرفيا هاما، سواء في تطوير مؤسسات الدولة، أو في تأسيس حزب الأحرار الدستوريين، أو في دوره الوطني الكبير أثناء ثورة 1919 والمفاوضات مع الإنجليز.
محمد محمود باشا يمثل نموذجا نادرا للزعيم الوطني، الذي جمع بين الثقافة العالمية والتمسك بالقيم المحلية، بين الإصرار على الاستقلال الوطني، وبين القدرة على إدارة الدولة بحزم.
كانت شخصيته صعبة ومعقدة، لكنها مليئة بالشغف والحكمة، ويظهر ذلك جليا في المواقف التي اتخذها، سواء في فرض النظام أثناء الفوضى السياسية، أو في الدفاع عن حقوق مصر في مفاوضاته مع القوى الأجنبية.
هو الرجل الذي لم يهادن، ولم يتنازل عن وطنه، وترك بصمة واضحة في تاريخ مصر الحديث، من شوارع القاهرة التي تحمل اسمه إلى المؤسسات التعليمية التي ساهم في تطويرها، وإلى الحزب الذي أسسه وأدار دفته السياسية.
يمكننا القول إن محمد محمود باشا لم يكن مجرد سياسي من الماضي، بل كان رمزا للجدية الوطنية، وللصراع بين الطموح الشخصي والخدمة العامة، بين القوة والإصلاح، بين التقليد والتحديث.
قصة حياته تذكرنا أن القيادة الوطنية الحقيقية تحتاج إلى رؤية، وشجاعة، وقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة، وهذا ما جسده محمد محمود باشا بحق.
هو ابن مصر الصعيدي، الذي حمل قلبه على كفه، وأراد لوطنه الخير والعدل، وكان، وسيظل، أحد أعمدة السياسة المصرية في القرن العشرين.