بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
د. وجدي زين الدين

شبرا‮.. ‬وطن لا يعرف الفرقة


أحمد حلمي‮.. ‬خلوصي‮.. ‬الترعة البولاقية‮.. ‬فيكتوريا‮.. ‬سانت تريزا‮.. ‬معالم شبرا ولافتتها بين الميادين والشوارع التي تنتمي للمحروسة ،‮ ‬شبرا الموطن الصغير الذي احتضن موهبة صلاح جاهين بتقلباتها وهياجها وصراخها وبكائها،‮ ‬بين أرجاء أحياء شبرا تشعر بأن روحاً‮ ‬من مصر القديمة تهب علي روحك فتزيدها بهجة وطراوة،‮ ‬مشاهد الطبقة المتوسطة التي كادت أن تنعدم،‮ ‬تداهمك بين الحين والآخر في صورة موظف بثياب أنيقة يصطحب ابنته أو ابنه عائداً‮ ‬من المدرسة،‮ ‬وآخرون يعبرون عن معاناتهم اليومية في ساقية لقمة العيش،‮ ‬لكن المشهد الأكثر صدارة هو صورة الفتيات المسيحيات بصحبة أبناء المنطقة المسلمات،‮ ‬الأولي بشعرها المنسدل علي الكتفين ليشي بأن طالبة الثانوي التي تمر من أمامك تحمل بداخلها ملامح قبطية مصرية صغيرة،‮ ‬تعانق يدها تلك الصديقة التي تربط رأسها بإيشارب الرأس،‮ ‬ويتفقان في البهجة والانطلاق بالخطو للمستقبل‮.‬

شبرا‮.. ‬الوطن الذي مازال يحتفظ ببكارته وكأن سانت تريزا ألهمت المكان حنو القديسين،‮ ‬فباتت المحبة هي المعلم الأساسي هنا‮.‬

كنيسة ماري جرجس

ولعل الرمز الديني المتجسد في القديس ماري جرجس وهو يصارع الشيطان أبرز الملامح التي تتطلع عليها داخل دكاكين البقالة ومحلات الأطعمة بشوارع شبرا،‮ ‬فهو بحد تعبير الست أم جانا سريع الندهة كونه يمثل في العقيدة المسيحية رمزاً‮ ‬من رموز الخلاص،‮ ‬هنا في مناطق شبرا نلتقي ببعض الأطفال المسيحيات ونطلب منهم أن ينشدوا ترنيمة القديس الشهيرة التي ترتبط عندهم بمعدل الخلاص والنجدة‮ »‬ماري جرجس يا شفيع كنيستنا يا حامل للرب رايتنا‮.. ‬يا ماري جرجس يا ماري جرجس‮«.‬

فلا أحد يعرف معني للفرقة أو التزمت الديني أو الطائفي،‮ ‬والكلام للسيدة المسيحية البالغة من العمر‮ ‬50‮ ‬عاماً‮.. »‬عشت حياتي بشبرا وتنقلت بين أرجائها وشوارعها،‮ ‬لا يوجد فارق بين مسيحي أو مسلم،‮ ‬ولا أخفي سراً‮ ‬أن جارتي المسلمة في منزل والدي القديم هي من كانت ترشدني في معاملتي ابنتي حيث كنت حديثة العهد بالأمومة،‮ ‬لم أذكر يوماً‮ ‬أن الدين كان يفرق بيننا وبين جيراننا،‮ ‬فبيت جارتنا المسلمة كان بيتنا،‮ ‬نزورهم في الأعياد وغير الأعياد ويلتقي الأبناء لمشاهدة مباراة كرة قدم أو فيلم من أفلام إسماعيل ياسين وماري منيب ابنة شوارع شبرا‮.‬

وينتقل المقدس توماس‮ »‬60‮ ‬عاماً‮« ‬إلي مشهد يلح علي الذاكرة قبل‮ ‬20‮ ‬عاماً‮ ‬حين قرر ابنه الأكبر الهجرة إلي كندا،‮ ‬وكثيراً‮ ‬ما تكلم الأب مع ابنه حول مصير الأم التي ستمرض إذا ما فارقها ابنها،‮ ‬إلا أن طموح وروعنة الشباب كانت هي الغالبة في النهاية،‮ ‬ويذكر المقدس توماس أن أول من لجأ إليه للاقتراض لإكمال مصاريف تذاكر الطيران لابنه كان صديق عمره في مصلحة التأمينات والمعاشات‮ »‬محمد توفيق‮« ‬الذي وافته المنية منذ عامين لكنه مازال دائم التردد علي البيت يزور ولديه وأحياناً‮ ‬لا يجد خجلاً‮ ‬في أن يزور الابنة الوحيدة بدجاجة أو أكياس فاكهة مثلما يفعل مع ابنته‮.‬

كنيسة السيدة العذراء

ولعل أحداث الثورة المصرية كانت كفيلة بتصدير مشاهد الحنو بين أهالي شبرا،‮ ‬حيث وقف أبناء منطقة مسرة وشكلوا دروعاً‮ ‬بشرية لحماية كنيسة البتول‮ »‬السيدة العذراء‮« ‬مؤكدين والكلام لأحمد ممدوح‮ »‬22‮ ‬عاماً‮« ‬إن الأقباط ليسوا إخواننا فقط بل هم جزء متأصل فينا لا يمكن أبداً‮ ‬المساس به أو التفريط فيه،‮ ‬ففي مدرستي الاعدادية كنت أجاور فيها زميلي القبطي وأحياناً‮ ‬كثيرة كان يقرضني السندويتشات،‮ ‬والمقهي الذي نجلس عليه يجمع الأقباط والمسلمين،‮ ‬باختصار شبرا لهم معلم روحي مختلف،‮ ‬فهي منطقة لا تعرف معني الفتنة أو العزلة وذلك لكونها منطقة شعبية متداخلة،‮ ‬فما حدث في منزل الجار يعرفه الجار،‮ ‬وفي يوم رأس السنة الميلادية كنا جميعاً‮ ‬متألمين لما حدث لإخواننا الأقباط‮.‬

ومن أحمد إلي مينا الذي يوضح لنا أن الموضوعية تفترض أن نطرح المشكلة بحيادية لئلا ندفن رءوسنا في الرمال مثل النعام وعلي الجميع أن يعترف أن هناك خللاً‮ ‬يتعمد حدوثه بين أبناء الوطن الواحد،‮ ‬هذا الخلل دخيل علينا وعلي أبناء الشعب المصري،‮ ‬لكن بالتأكيد هناك من يصب الزيت علي النار ومن يتعمد إشعال الفرقة بين الطرفين،‮ ‬لكني أصارحك بأن شبرا منطقة مختلفة عن مناطق القاهرة كونها لا تزال تحتفظ ببراءتها وطيبة أهلها وتضفيرة التركيبة البشرية بين سكان شبرا،‮ ‬فالجار المسلم يجاوره المسيحي،‮ ‬والمصنع الواحد يعمل فيه أقباط ومسلمون،‮ ‬وبالتالي فإن التركيبة البشرية تفرض علي شبرا نوعاً‮ ‬من التآلف والتآخي‮.‬

ويبقي رمز السيدة العذراء بين أهالي شبرا مثالاً‮ ‬للنورانية والروحانية التي يستمد منها قبط شبرا ومسلموها الروح والنقاء،‮ ‬فهي أم النور وهي أم المسيح وهي العدرا‮ »‬بحرف الدال‮« ‬كما سمعناها من أهالي شبرا المسلمين،‮ ‬العذراء التي يجمع الجميع علي أنها رمز للمدد الروحي وتفريج الكرب والمحنة والألم،‮ ‬وربما كان ذلك دهشة قد أسرتني ووجدتني أبحث عن مسبب لها أو سبب للكشف عن علاقة التتيم التي يكنها مسلمو شبرا للسيدة مريم العذراء‮.‬

فأم محمد مثلاً‮ ‬لا تري أي‮ ‬غرابة في أن تحمل صورة العذراء في حافظة نقودها لأنها تحبها وقلبها متعلق بها منذ أن رأتها في المنام وبشرتها بابنها،‮ ‬من يومها وبقيت الصورة التي رسمها الفنان دافنشي للسيدة العذراء لا تفارق‮ »‬البوك‮« ‬حافظة النقود التي تستقر في صدر أم محمد،‮ ‬هي تعلم أن السيدة العذراء ست طاهرة وتسمع نداء من يناديها وهي التي بشرتها بابنها لذلك هي تحبها ووقت أن يعلن عن ظهور العذراء فوق الكنيسة تجري بثياب البيت،‮ ‬وسط الجموع تتسابق للحاق برؤية هالة النور التي تنطلق فوق كنيسة العذراء بمنطقة مسرة‮.‬

ويروي مينا ميلاد‮ - ‬باحث قبطي‮ - ‬لمحة تاريخية عن كنيسة السيدة العذراء بمسرة أبرز معالم شبرا قائلاً‮: ‬كانت شبرا منطقة زراعية

حتي أوائل العشرينيات،‮ ‬ولم تكن بها كنائس،‮ ‬ثم فكر الأقباط في بناء كنيسة وعقدوا لذلك أول جلسة في يوم الجمعة‮ ‬31‮ ‬مارس‮ ‬1922‮ ‬وشكلوا لجنة منهم لذلك الغرض أسموها‮ »‬الجمعية القبطية الأرثوذكسية لبناء كنيسة شبرا‮« ‬وجمعوا في ذلك الاجتماع‮ - ‬الأول‮ - ‬مبلغ‮ ‬420‮ ‬قرشاً‮ ‬كنواة لشراء الأرض وواصلوا جمع الاشتراكات والتبرعات للمشروع‮.‬

بدأ البحث عن قطعة أرض في مكان مناسب وكانت هناك أراض كثيرة معروضة للبيع ولكن استقر الرأي علي قطعة أرض في شارع مسرة ملك سعادة كناري باشا،‮ ‬مساحتها‮ ‬40‮ * ‬39م وبعد المفاوضات اتفق علي أن يكون السعر جنيهاً‮ ‬للمتر،‮ ‬وتم تحرير عقد الشراء في‮ ‬3‮ ‬أبريل‮ ‬1923م‮.. ‬اتضح بعد ذلك أن التقسيم الفعلي يجعل مساحة الأرض‮ ‬40‮ * ‬30م فقط‮ ‬1200‮ ‬متر مربع‮ »‬وهي الأرض الحالية للكنيسة‮« ‬وتم شراؤها بمبلغ‮ ‬1200‮ ‬جنيه مصري،‮ ‬أصبحت برسم التسجيل‮ ‬1225‮ ‬جنيهاً‮ ‬و525‮ ‬مليماً‮.‬

ثم صدر مرسوم ملكي رقم‮ ‬56‮ ‬بتاريخ‮ ‬1923‭/‬7‭/‬11‮ ‬بتوقيع جلالة الملك فؤاد الأول ملك مصر حينذاك بالترخيص ببناء الكنيسة ونشر هذا المرسوم بجريدة الوقائع المصرية‮ »‬العدد رقم‮ ‬75‮ ‬الصادر في‮ ‬1923‭/‬7‭/‬28‮«.‬

وقام بافتتاحها‮ ‬غبطة البابا كيرلس الخامس يوم الثلاثاء‮ ‬6‮ ‬نوفمبر‮ ‬1923‮ ‬وحيث كان قداسة البابا كيرلس الخامس في عام‮ ‬1924‮ ‬قد أتم الخمسين عاماً‮ ‬علي جلوسه علي الكرسي المرقسي،‮ ‬فقد قررت جمعية بناء الكنيسة أن تكون هذه الكنيسة الجديدة باسم السيدة العذراء‮ »‬تذكاراً‮ ‬دائماً‮ ‬لليوبيل الذهبي لغبطة البابا كيرلس الخامس‮« ‬وكتب هذا القرار علي ورق فاخر داخل برواز موجود حتي الآن بالكنيسة‮.‬

استمر الوعظ في القاعة ثلاثة أيام أسبوعياً‮ ‬حتي تم عمل الرسومات الهندسية للكنيسة بواسطة المهندس تادرس سيداروس‮ ‬غالي والمهندس جاك أفندي ميلاد وآخرين،‮ ‬ثم قام مطران البلينا الأنبا إبرام نائباً‮ ‬عن‮ ‬غبطة البابا بوضع الحجر الأول في البناء عند الناحية الشرقية للهيكل يوم الجمعة الموافق‮ ‬7‮ ‬نوفمبر‮ ‬1924‮ ‬ووضع فيه صندوق من الرصاص يحتوي علي نسخة من الكتاب المقدس‮.‬

ويروي آخر من أهل مسرة بشبرا أن العندليب‮ »‬عبدالحليم حافظ‮« ‬كان يقصد سانت تريزا أوقات أن أشتد عليه المرض فكان كثيراً‮ ‬ما يأتي إلي شوارع شبرا عقب مكوثه فترة طويلة بمنطقة سانت تريزا‮.‬

فيلم هندي

ولعل توفيق داود عبدالسيد في نقل الواقع الفعلي لحي شبرا من خلال تجربته مع أحمد آدم وصلاح عبدالله عبر تجربته السينمائية‮ »‬فيلم هندي‮« ‬كان نموذجاً‮ ‬صادقاً‮ ‬للتعبير عن مدي العلاقة بين الأقباط والمسلمين بشوارع شبرا،‮ ‬شبرا الشاهد التاريخي الذي يجمع بين أصالة التشييد عبر ما تراه عينك وأن تمر إلي جوار الكورنيش وقصر محمد علي،‮ ‬نجح الصديقان بحسب مشاهد الفيلم الذي حكي تجربة صداقة تجمع بين مسيحي ومسلم،‮ ‬وإن فرقتهما بعض الخلافات العاطفية مقابل شقة أو وحدة سكنية فإن العلاقة القديمة كانت بمثابة الجاذبية الأصيلة لجوهر العلاقة‮.‬

شبرا الطيبة لا تعرف معني للفرقة أو الخلاف،‮ ‬الأمر فقط بوصف الزميل ماجد أديب ساقية لقمة العيش التي تلاهي فيها الجميع ونظام قمعي ظل جاثماً‮ ‬لـ‮ ‬30‮ ‬عاماً‮ ‬يتلاعب بعقول أبناء الشعب بين خلال إذكاء تيارات فكرية علي حساب تيارات أخري بهدف شق الصف المصري‮.. ‬إن شبرا بأحيائها قد ضربت نموذجاً‮ ‬للتآخي الوطني بين مسلمين وأقباط شركاء في الوطن والحلم والهم والأمل والألم‮.‬

في شوارع شبرا تهفو إلي أذنك قهقهة علي الكسار الشهيرة،‮ ‬وأمام المقاهي تلمح صورة مجدي عبدالغني ابن شبرا وطاهر أبوزيد،‮ ‬شبرا التي أنجبت بليغ‮ ‬حمدي وروعة ألحانه التي جمعت بين الرقي والحس الشعبي الأصيل،‮ ‬وربما كانت التسمية القبطية لهذا الحي الكبير شاهداً‮ ‬علي أصالته،‮ ‬حيث تعني شبرا في اللغة القبطية العزبة أو القرية الصغيرة،‮ ‬وباتت رغم تقلب الأزمنة عزبة صغيرة تجمع أولادها في حنو بترنيمة قبطية أصيلة‮.‬