خارج السطر
محمد على من الديمقراطية إلى الاستبداد
جاء محمد على للسلطة باختيار ديمقراطى بمعايير عصره، لكنه تحول تدريجيًّا إلى الديكتاتورية الطاغية. صحيح أنه عين واليًا على مصر باختيار السلطان العثمانى فى 1805، لكن هذا الاختيار جاء على هوى الناس، ورضا الأعيان، وعلى رأسهم عمر مكرم نقيب الأشراف، والذى تمتع بشعبية واسعة بين الناس.
لقد كان أبرز تحالف بين السلطة وممثلى الشعب عندما اتفق محمد على مع عمر مكرم ألا يقطع أمرًا دون رأيه وألا يفرض على الناس ضرائب إلا بعد مشورة العلماء. وهذا ما جعل الشيوخ يلتفون حوله ويدعمونه عندما صدر قرار بنقله إلى ولاية أخرى فى العام التالى 1806، فرجع السلطان عن قراره.
لم تمر ثلاث سنوات على استتباب الحكم للرجل فى مصر حتى بدأ مشروعه لكسر الديمقراطية (اتفاق الشورى) والانفراد التام بالحكم، وبدأ طريقه بفرض «فردة» بأربعة آلاف كيس تحصل من التجار وأصحاب الحرف، ثم فرض فائظ على الرزق المحبوسة للأعمال الخيرية والدينية وكذلك التى كانت معفاة.
يحكى الجبرتى أن المشايخ والعامة حضروا إلى عمر مكرم وكتبوا عرضحالا للباشا يذكرون فيه المحدثات من المظالم والبدع، وطلبوا أن يصحبهما إلى الباشا، لكنه رفض مبديًا غضبه من مخالفة الوالى لما اتفق عليه معه، وقال عمر مكرم «إن الناس تتهمنى بأنه لا يجرؤ على فعل شىء إلا باتفاقى معه». وهكذا علم الجميع أن ثمة خلافًا بين الباشا وممثل الشعب.
ولأن محمد على ديكتاتور ثعلب فقد حاول استمالة عمر مكرم بكل الوسائل الممكنة حتى أنه عرض عليه منحه كيس نقود كل يوم فأبى. وحاول الباشا استدعاءه لديه لكنه رفض، وبعد تدخل المشايخ وافق عمر مكرم على لقاء الباشا بشرط أن يكون اللقاء فى بيت الشيخ السادات، فقال محمد على للمشايخ : «لقد بلغ به أن يزدرينى ويأمرنى بالنزول من محل حكمى إلى بيوت الناس».
وفى يوم الأربعاء التالى صدر قرار محمد على بنفى عمر مكرم وباختيار الشيخ السادات محله فى منصب نقيب الأشراف، وطلب عمر مكرم أسيوط محلا للإقامة فرفض الباشا، واختار دمياط. وخرج الناس بالمئات يودعون الشيخ عمر حتى ساحل بولاق.
وفى ذلك الوقت أبدت نخبة مصر السياسية وهم العلماء والمشايخ كثيرًا من الخنوع والنفاق تجاه محمد على طمعًا فى تقاسم المناصب والنفوذ والثروة.
والمثير فى الأمر ما يذكره الجبرتى من أن المشايخ الذين كانوا يستجيرون بعمر مكرم من تعسف وظلم وإتاوات محمد على، سارعوا بعد نفيه إلى كتابة عرضحال فى حق الشيخ ذكروا فيه سبب عزله وعددوا مثالبه لإرسالها إلى السلطان.
وكان مما ذكره المشايخ المنافقون أن عمر مكرم أدخل فى دفتر الأشراف عددًا ممن أسلموا من اليهود والقبط، ومنها أنه أخذ من الألفى بك (أحد كبار الأمراء المماليك) فى الماضى أموالا ليملكه مصر أيام فتنة خورشيد باشا، ومنها أنه أراد إيقاع الفتنة فى العساكر لينقض دولة الباشا. ثم طافوا بالعرضحال على المشايخ فوقعوا عليه وامتنع البعض، فخففوا قليلا من الهجوم على الرجل ثم كرروا الطواف حتى وقع الجميع بضغوط من الشيخ السادات والشيخ الأمير، لكن رجلا واحدا أبى التوقيع هو الشيخ أحمد الطهطاوى.
وحاول المشايخ المرة تلو المرة مع الرجل، لكنه كان أصلب عودا مما تصور الجميع، فاتفق المشايخ على عزله من إفتاء الحنفية. يقول الجبرتى: «ولما علم الرجل الخبر اعتكف فى داره، وترك الخلطة بهم وهم يبالغون فى ذمه والحط عليه لأنه لم يوافقهم على شهادة الزور».
وهكذا منحت النخبة الحاكم الصاعد الثقة المطلقة للانفراد والاستبداد، ثم تخلص الرجل بعد ذلك من المماليك تماما فى 1811 وصار فرعونا جديدا، فلنا العبرات.
والله أعلم