بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

الجسد فى الثقافة العربية والغربية (2)

ينادينى أقاربى فى مصر «يا دَكْتور» (بفتح الدال)، وخلال زيارة إلى قريتى فى دلتا النيل، كنت أقيم مع أقاربى وسمعتهم جارتهم ينادوننى «يا دَكْتور» فأتت إلينا مع أطفالها المرضى وطلبت منى تشخيصهم ووصف الأدوية لهم. ابتسمت فى وجهها وقلت إننى دُكتور فى الأدب ولست طبيبًا متخصصًا فى تشخيص الأمراض، فأجابتنى مستنكرة: «الله! مش كلُّه عَلام يادَكْتور؟»

ذكّرتنى هذه المحادثة مع سيدة القرية أننى عندما كنت أدرّس الأدب العربى والمقارن فى الولايات المتحدة لاحظت أنّ العديد من الكتاب العظماء–بمن فيهم رابيليه وتشيخوف وويليام كارلوس ويليامز–أطباء أنفسهم، بينما اختار آخرون–سوفوكليس، وموليير، وهوثورن، وديكنسون، وكافكا، وفتزجيرالد–المرض كثيمة لسردياتهم الشهيرة. وفى أدبنا العربى نجد أنّ العديد من الأدباء كانوا فى الأصل أطباء مثل أحمد زكى أبو شادى، إبراهيم ناجى، يوسف إدريس، نوال السعداوى، علاء الأسوانى، وآخرين.

هناك فارق بين المرض (disease) والسقم أو الابتلاء (illness)، فالمرض هو مشكلة عضوية، داء، اضطراب عضوى يسعى الطبيب إلى علاجه، ولكن السقم أو الابتلاء هو تجربة الإنسان للمرض ومعاناته الطويلة معه. ليس من المستغرب أن نقول هذا لأن السرد كان قد تعامل مع موضوع المرض منذ نشأة البشرية، فمريض العصور القديمة يسأل نفس الأسئلة التى يسألها مريض اليوم: لماذا أنا بالذات؟ لماذا تغطى الدمامل جسدي؟ لماذا أعاني؟ أى ذنب اقترفته حتى أنال هذا العذاب؟

والغريب هو أننا قد نفاخر بالأفكار النيرة لدينا والنظرة المتسامحة عندنا نحو الغريب، ولكن جسدنا—وياللمفارقة—قد يمارس التفرقة العنصرية باستماتة—ألا يرفض الجسد بعنصرية سافرة أى جسم غريب فى عمليات نقل الأعضاء؟ ألا يضطرّ الجرّاح والجراّحة إلى حقن الجسد بسائل يقوم بخداعه ويوهمه أن الجسم الغريب ليس غريبًا وأنه من «الأقارب»؟

وقد تكون الكتابة الإبداعية —لمؤلفها ولقارئها—علاجا نفسيا (therapeutic) لجروح النفس ودرعا واقية ضد نوبات الجنون واختطافات الموت. لا أدرى لماذا مرّ بخيالى طيف مجنون ليلى—وهو لم يكن مجنونا بالمعنى المتداول للجنون وغياب العقل، بل محبا وعاشقا حرمته أعراف القبيلة من العيش مع حبيبته فوجد علاج قلبه الكسير فى الإبداعات الشعرية والشطحات التى جعلته يفضّل العيش مع وحوش البادية على الحياة فى مدائن البشر الظالمة.

أنا حاليا أكتب رواية عن رجل يبحر إلى جزيرة بحثا عن حبيبته التى اختفت فجأة دون أن تترك أثرا. الراوى هو أيضا روائى وهو يستخدم الكتابة الإبداعية كعلاج لآلامه. كما نرى، الكتابة ضرورية لعالمنا الساقط–فمن الصعب أن نتصور إمكانية الكتابة الإبداعية فى عالم فردوسى يوتوبى يتسم بالكمال والسعادة والصحة المستدامة.