تمثلات الجسد فى الثقافة العربية والغربية (1)
عندما كنت أدرّس الأدب العربى والمقارن فى الولايات المتحدة استرعى انتباهى وجود مساقات ومجلات أكاديمية متخصصة فى العلاقة بين الأدب والطبّ. وخلصت بأننا إذا نظرنا إلى الطب على أنه تشخيص لأوجاع الجسد وتخفيف المعاناة الإنسانية، فإنه يصبح أكثر من مجرد تجارب وبحث علمى. وفى المقابل نجد أنّ الأدب يقدم تراثا غنيًّا من التبصّر فى طبيعة الألم البشرى والشفاء منه.
نحن أعلم بشؤون أجسادنا، فنحن نعيش فى داخلها، وحيثما توجد هذه الأجساد نوجد، وحين تتألم نتألم، وحين تقوى نقوى، وأينما أقامت يصبح مكان إقامتها هو بعينه مكان إقامتنا. بهذا المعنى يمكن القول إنّ عنواننا الحقيقى هو جسدنا، وليس عنوان البيت الذى نسكنه أو الصندوق الذى يحمل رقمنا البريدى.
وهذا الجسد لديه لغته الخاصة وقوانينه الخاصة. نعم للجسد، كما للأدب، لغة! تتعدد الطرائق التى يتكلم بها الجسد: احمرار الوجه عند الخجل؛ اصفرار العين عند تليّف الكبد؛ إصدار الجسد أصواتا مثل التجشؤ والشخير. ومهما حاولنا أن نخفى ما نشعر به، قد يفضحنا الجسد: أليس للمعدة صوت كناقوس الخطر عندما تكون فارغة؟ ألا يقف الشعر على جلدنا من الرعب؟ وماذا عن الغصّة فى حلقنا عندما تغلبنا العاطفة الجيّاشة؟
يمكن للأطباء تشخيص المرض وليس المعاناة؛ يمكنهم أن يخبرونا بشيء عن المرض والعلاج، لكن الروايات التى يقدمها المصابون هى وحدها التى يمكن أن تمثّل الإحساس بالمرض وتجربة الإنسان يومًا بعد يوم مع الألم. ويمكننا قراءة العديد من الروايات عن الأمراض الجسدية والنفسية والمعاناة الإنسانية فى كتب تراوح بين «يوميات عام الطاعون»، للكاتب الإنجليزى دانييل ديفو (1722)، والتى وثّق من خلالها الطاعون الذى اجتاح لندن عام 1665، و«آلام الشاب فارتر» لغوته (1774)، و«الطاعون» لألبير كامو (1947) و«المرض كاستعارة» ﻟسوزان سونتاج (1978)، و«الحب فى زمن الكوليرا» لغبرييل جارسيا مركيز (1985)، و«العمى» للبرتغالى خوسييه ساراماغو (1995)، ورواية «عام الطوفان» للكاتبة الكندية مرجريت اتوود (2009)، ورواية «الحب فى زمن كورونا» للكاتبة والإعلامية اللبنانية استفانى عوينى (2020). ويمكننا أن نذكر قصيدة «الكوليرا» للشاعرة العراقية نازك الملائكة (1947)، التى أرّخت لانتشار وباء الكوليرا وقتذاك، وضاقت عاطفتها الجياشة بقيود القصيدة التقليدية؛ ما جعلها تنظم قصيدتها فى قالب جديد سمّى فيما بعد بالشعر الحرّ.
يمكننى أن أضيف أن للجسد دستوره الخاص—فهو مَلَكية (بفتح اللام) مُطْلَقة absolute monarchy) (لا تسمح بأى ممارسات ديمقراطية لبقية الأعضاء؛ مَلَكية على رأسها المخ الذى يصدر الفرمانات لجميع الأعضاء وهو الذى يقرر استمرار الوعى أو توقّفه عند الصدمات القوية والألم الذى لا يطاق. هذا المخ المتسلط هو الذى يعطى الإشارة الحقيقية لموت الإنسان عندما يصدر أمرا بايقاف الموجات الكهرومغناطيسية. الموت الطبى هو نتيجة توقف الموجات الكهرومغناطيسية للمخ وليس نتيجة توقف دقات القلب كما يعتقد الكثيرون.