حكاوى
المواطنة «3»
مازال الحديث مستمرًا حول المواطنة وأهميتها فى العيش فى سلام وأمان. وكان الاسلام والديانات كلها السماوية تؤكد على قيمة الوطن وإعلاء المواطنة، وأن المواطن عليه واجبات تجاه وطنه كما أن له على وطنه حقوقًا. وقد دخلت لفظة الوطن الأدبيات الفقهية والشرعية، فمثلا قال الجهجهانى الوطن الأصلى هو مولد الرجل والبلد الذى هو فيه. وقال ابن المبارك إن من أقام فى مدينة أربع سنين فهو من أهلها. وكلنا يتلو دعاء إبراهيم عليه السلام لمكة: «ربنا إننى أسكنت من ذريتى بوادٍ غير زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون»، وعندما اضطر الرسول صلى الله عليه وسلم لمغادرة مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وعندما بلغ حدودها وهو يرمقها بعينيه قال: (والله إنك لأحب البلاد إلىّ ولولا أن قومك أخرجونى منك ما خرجت). وأعطت هجرته الشريفة درسا فى تعلم الأجيال حب الوطن والانتماء إليه والدفاع عنه بكل غال ونفيس.. إن للوطن فى أعناق ابنائه أمانة يجب أن يدافعوا عنه بكل قوة وبأس وواجب.. كل إنسان يجب عليه أن يحافظ على أمن هذا الوطن وسلامته، وشرع الجهاد فى سبيل الله دفاعا عن الدين والوطن والأرض والعرض ومن قتل فى سبيل الدفاع عن وطنه كان شهيدا وشهداء الوطن هم شهداء فى الادبيات الربانية والمحمدية.
ومع بداية الغارة الكبرى على ديننا وحضارتنا وأوطاننا راجت ثقافة الاستهانة بالوطن، وسادت لغة حمد وشكر الاستعمار والاحتلال ومطالبته بالعودة إلى بلادنا لأن الاستقلال كان لعنة وليس نعمة حسب رأيهم.
واذا كان التطور الحضارى الغربى لم يعرف المواطنة وحقوقها إلا بعد الثورة الفرنسية فإن الاسلام جعل حب الأوطان من الإيمان لأن الإسلام الحضارى يقر الوفاء والاعتراف بالجميل. ويقول فى ذلك ابو حامد الغزالى: البشر يألفون أرضهم على ما بها ولو كانت قفرا مستوحشا، وحب الوطن غريزة متأصلة فى النفوس تجعل الانسان يستريح الى البقاء فيه ويحن إليه إذا غاب عنه ويدافع عنه إذا هوجم ويغضب له إذا انتقص..
هذه الاشكالية أحدثت سجالا حادا بشأن انطباق مفهوم المواطنة الغربى على التشريعات الاسلامية السياسية، وكانت مورد اجتهادات عديدة خلال النصف الأخير من القرن العشرين والمساواة الكاملة للمواطن لم تأخذ طريقها الى الوجود مباشرة ودفعة واحدة حتى داخل التجربة الغربية.. إذن من أين جاء هذا التنكر والاقصاء والقساوة فى نفس الوقت؟ وهل بالفعل الإسلام يجعل الانسان منتميا الى العالمية وليس إلى وطنه الأم؟ لماذا لم يتعلم المسلمون من رسولهم فى إقامة مجتمع متكامل والاقرار ايضا بتقديس الوطن وتقديس المواطن؟ الرسول عليه السلام كما نعلم أسس دولة فى المدينة المنورة ودون فيها ميثاقا سمى ميثاق المدينة.. ويقول الباحثون إنه أول دستور فى تاريخ الاسلام ربما أيضا أول دستور فى تاريخ الانسانية جمعاء. هذا الدستور أو هذه الوثيقة ساوى فيها الرسول عليه السلام بين سكان المدينة من مسلمين أنصار ومهاجرين ومن يهود كانوا فى المدينة أمثال بني قينقاع وغيرهم، وأيضا المسلمون الذين جاءوا الى المدينة من خارجها وسكنوا فيها واستوطنوها، وجعل لهؤلاء جميعا حقوقا وواجبات.
جعلهم الرسول صلى الله عليه وسلم أمة واحده.. قال: بنو قينقاع أمة.. المسلمون أمة، وساوى بينهم فى الحقوق والواجبات، لهم حقوق النصرة والرعاية والحماية وعليهم واجبات الدفاع عن الدولة وحرية الاعتقاد وحرية التدين تركت لهم.
ترك لليهود وللمسلمين أن يمارسوا شعائرهم الدينية بحرية تامة. هذا نموذج للمواطنة، وينبغى أن يحتذى به دائما. الأوطان لا يكون فيها فقط أصحاب عقيدة واحدة، وكثيرا ما تتداخل، ولذلك نقول إن الدين لله والوطن للجميع. والتاريخ مثلا والحضارة الاسلامية أيام الراشدين والأمويين والعباسيين حتى العثمانيين إلى آخره حتى يومنا هذا كانوا يعتبرون الأوطان فيها أكثر من ديانة لكنهم يعيشون فى وطن واحد، وطن يعنى أرضا وشعبا وحكومة.. المثال فى ميثاق المدينة هناك ادارة لشؤون الدولة بقيادة الرسول عليه الصلاة والسلام وهناك شعب فيه يهود وفيه مسلمون عرب وهناك أرض بطبيعة الحال. هذه عناصر ثلاثة؛ أرض وشعب وإدارة حكومية أو حكومة تديرهم.
وللحديث بقية.