بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

عودة شامبليون

 

 

المعانى والمضامين الكبيرة تأتى عادة من التمعن فى ثنايا التفاصيل الصغيرة، فصورة استقبال ماكرون الحافل للسيسى على عتبات الإليزيه كسرت كل قواعد البرتوكول الفرنكوفونى العريق والذى يتشدد أيضًا فى منح شرف «زيارة دولة» الا صفوة الصفوة من القادة لما لها من دلالات هامة.

ومازالت مشاهد الموكب النابليونى الفخيم الذى حظى به الرئيس المصرى عالقة بالأذهان ودليلًا دامغًا على عمق العلاقات المتنامية فى السنوات الأخيرة والتى تخطت حدود الشراكة إلى آفاق التحالف الاستراتيجى والذى يظهره تحليل لغة الجسد حيث ترتسم الابتسامة العريضة على محيا الرجلين مع وضع ماكرون يده على كتف السيسى الذى ارتدى حلة أنيقة ذات طابع باريسى فى إشارة واضحة لا تخطئها العين على التناغم السياسى، فالعلاقات المشتركة متجذرة منذ أن استيقظت مصر من سبات القرون الوسطى على وقع عنفوان الصدمة الحضارية للحملة الفرنسية والتى لطالما راودت بونابرت فى أحلامه لتكون حجر الزاوية لامبراطوريته فى الشرق وضربًا للمصالح البريطانية فى الهند، وكنتيجة طبيعية للتفاعل الثقافى المباغت فقد استفادت مصر من الاسهامات الكبرى للحملة والتى تمخضت عن اهم حدث ثقافى فى التاريخ البشرى وهو نجاح شامبليون فى فك رموز وطلاسم اللغة الهيروغليفية التى مكنتنا من استخراج وفهم كنوز الحضارة الفرعونية المذهلة التى سطرها بأحرف من نور 160 عالمًا فى 20 مجلدًا «موسوعة وصف مصر» بالإضافة إلى فيض المعارف والعلوم المتقدمة فتم توطين نظم الإدارة الحديثة، مستغلة وجود المطبعة لأول مرة، مرورًا بالكوادر المهلمة أمثال كلوت بك منشيء قصر العينى وسليمان باشا مؤسس الجيش الحديث، وديليسبس مهندس قناة السويس قلب العالم النابض التى أبرزت عبقرية موقع مصر كبلد محورى هام للتجارة العالمية.

حسنًا لقد شكلت الثقافة الفرنكوفونية روح المدنية المصرية الحديثة فى قرن التأسيس، حيث برز ذلك الذكاء الفرنسى كما وصفه نجيب محفوظ فى مقالة عن طه حسين بأنه لا يطيق الغموض أو التعقيد والذى يعطى محصولًا بسيطًا بساطة البديهيات الرياضية وإن كان تمثيله وهضمه من أعسر الأمور، فهو السهل الممتنع لذلك توجه نصيب الأسد من طلبة البعثات إلى مدينة النور تحت إشراف مونج، رئيس المعهد العلمى الذى أسسه نابليون، وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوى مؤسس مدرسة الألسن حيث ترجمت أكثر من ألفين من الأعمال الأدبية والعلمية، منها درر القانون الفرنسى، حيث أصبحت الفرنسية لغة الطبقات العليا، والنابهين من أبناء الطبقات الوسطى، كسعد زغلول وسلامة موسى، وتوفيق الحكيم.

اذا كان ذلك هو الماضى القريب بكل زخمه فماذا عن مستقبل العلاقات؟ أخيرًا وجدت فرنسا ضالتها فى حليف إقليمى قوى وموثوق به ربما ترى الطبقة السياسية ثمة تشابه بين ظروف انقاذ السيسى للبلاد من براثن الفوضى واستعادة مؤسساتها وكفاح الجنرال ديجول لتحرير فرنسا من الاحتلال النازى وبناء الجمهورية الخامسة.

لذا يرى الإليزيه ضرورة بناء تحالفات غير تقليدية تحفظ لها مصالحها الحيوية فعندما اشتد الكرب والحصار بباريس عقب أزمة الرسوم الكارتونية لم تجد الا الوسطية المصرية منقذًا من العزلة والكراهية ولعله من هنا جاء تسليح الجيش المصرى الذى أصبح أهم «فاترينة عرض» للتكنولوجيا الفرنسية كالرافال والميسترال والجويند مما تسبب فى عودة مبيعات الأسلحة الفرنسية إلى واجهة السوق العالمية أو كما قال طه حسين لقد احتاجت فرنسا إلى سنتين لتدرك أن مصر ليست بلدًا معدًا للاستعمار واحتاج غيرها إلى ستين سنة لفهم ذلك، لا أظن أن التعاون بين البلدين قد أفاد البلد الأول من دون البلد الثاني.