رؤى
الكنبة بسحارة
فى أحد الأيام استيقظنا على صراخ وولولة فى بيت جيراننا، بيت عم «أبوإسماعيل»، هكذا كنا نعرفه ونناديه، كان مزارعًا بسيطًا وفقيرًا، استطلعنا الخبر ظنا بأن الله أفتكر عم أبوإسماعيل، لكن المفاجأة كانت فى إسماعيل نفسه، قالوا: استشهد فى اليمن، وعرفت ساعتها أنه سافر منذ فترة مع القوات التى أرسلها عبدالناصر إلى اليمن، قيل إن ضابطًا أو صف ضابط جاءهم وأخبرهم بوفاته، وقيل: إن مأمور نقطة قحافة (مركز طنطا) استدعى أبوإسماعيل وقدم له العزاء فى إسماعيل.
عم أبوإسماعيل اخرج الكنبة الخشب التى كان يمتلكها فى منزله، وكانت مثل سائر الكنب فى بيوتنا بسحارة، وكنا نخزن بها العيش أو الألحفة (جمع لحاف) والأحرمة (جمع حرام بديل البطانية) ووضعها أمام البيت، لكى يستقبل المعزين، جيراننا أسرعوا بحمل كنبهم ووضعوها بجوار كنبة أبوإسماعيل، واستقبلت أم إسماعيل نساء الحارة والحارات المجاورة على حصيرة بالية فى قلب الدار.
سمعت من بعض رجال وشباب القرية، جاءوا لمواساة أبوإسماعيل، عدة حكايات عن اليمن وأهلها، قيل: إن بلادهم مجموعة من الجبال، وأنهم يمتازون بمهارة عالية فى القتل بالخناجر، وتوقع بعضهم موت إسماعيل بخنجر يمنى أطلق عن مسافة بعيدة، وسمعت أن اليمنيين يجيدون التخفى فى الجبال، مع أذان المغرب انفض العزاء، وحمل عم أبوإسماعيل الكنبة أم سحارة، وأغلق باب الدار على أحزانه.
بعد أيام، لا أتذكر عددها، انطلقت أصوات زغاريد من بيت أبوإسماعيل:
ــ خير
قيل: إن إسماعيل مازال على قيد الحياة، أبوإسماعيل من فرحته حمل الكنبة الخشب ووضعها أمام الدار واستقبل مهنئيه بدورق زجاج مملوء بالشربات، وكوب صاج تناوبته أفواه المهنئين، وعند أذان المغرب انفض المهنئون، وحمل أبوإسماعيل الكنبة وأغلق باب الدار.
بعد أيام، لا أتذكر عددها، تعالت أصوات الصراخ والولولة من بيت أبوإسماعيل، استطلعنا الخبر:
ــ إسماعيل مات ودفن فى اليمن
حمل أبوإسماعيل الكنبة ووضعها أمام الدار واستقبل أهل الحارة، ومع المغرب انفض العزاء وحمل الكنبة إلى الدار، بعد أيام، لا أتذكرها أيضًا، انطلقت الزغاريد، وقيل: إسماعيل مازال على قيد الحياة، فحمل أبوإسماعيل الكنبة واستقبل مباركيه، ولف دورق الشربات والكوب الصاج على أفواه الجيران.
ظلت حارتنا على هذا الحال لمدة لا أتذكرها بين الولولة والزغاريد، إلى أن جاء الخبر الأكيد: لقد قتل إسماعيل فى اليمن الشقيق، كيف قتل؟، ومن الذى قتله؟، وفى أى ساعة؟، وفى أى مدينة؟، وعلى أى جبل؟، وأين جثمانه؟، ولماذا ذهب إلى اليمن؟، ولماذا قتل؟، لم يكن أحد يمتلك الشجاعة أيامها على طرح هذه الأسئلة، وخرجت الكنبة للمرة الأخيرة أمام الدار، واستقبل أبوإسماعيل المعزين دون أن يرى جثمان إسماعيل، ومع أذان المغرب، انفض المعزون، وحمل أبوإسماعيل الكنبة وأغلق باب داره على أحزانه.