رؤى
الصانع
رؤية الفيلسوف الأفلاطونى للكون والوجود والخليقة بشكل عام أقرب للرؤية التى وصلتنا فى الديانات السماوية، اليهودية، الصابئة، الإسلام، وأقرب كذلك للرؤية البوذية، إذ يرى أن أصل الوجود المحسوس الذى نعيشه على الأرض فى السماء، الله أو الصانع حسب صياغته وصياغة أستاذه سقراط، خلق أصول المخلوقات، الإنسان، الحيوان، النبات، الجماد، الروح، الأفكار، المسميات، القيم، والزمن... فى الملكوت السماوى، والفرق بين الأصل أو المثل كالفرق بين الحقيقى وغير الحقيقى، بين المحسوس الظنى والكامل المثالى، يشتركان فى الأسماء، لكنهما يختلفان فى الجوهر، والنوع، والطعم، والهيكل، والعمر، والحركة..
أفلاطون بنى نظريته على عالمين؛ عالم المثل: وهو عالم غيبي، ويضم مثالًا لكل الأشياء والكائنات على الأرض: الرجل، المرأة، الحيوانات، الحشرات، الطيور، المادة: الكرسي، المنضدة، العربة.. هذه المثل لا تخضع للزمن ولا تتقيد به، وتتدرج وتتوحد فى عالم المثل حتى تصل إلى مثال الخير.
والروح فى عالم المثل خالدة وغير مركبة وخلقت قبل الجسد، وعاشت واكتسبت معرفتها فى عالم المثل، بعد فترة ارتكبت إثمًا فنزلت من عالم المثل إلى عالم أو وجود آخر، أدخلت فى قميص أو صورة أو جسد، ووفقًا لمحاورات: فيدون، ومينون، وطماوس، والجمهورية، والمأدبة، وحسب قراءات: ولتر ستيس، وجان بيار، وبرتراند رسل، ويل ديورانت، ولافين، وكوبلستون، وماتيي، وروبنسون، وجاستون، وعبدالرحمن بدوي، وفؤاد زكريا، والأهوانى، نزلت إلى العالم الثانى الناقص وهو الأرض.
هذه الروح فى الجسد تنزل الأرض عن طريق الولادة، وعملية الولادة تشوش ما اكتسبته الروح من معرفة فى عالم المثل، فتنسى معظم أو جميع ما تعلمته، وخلال حياتها على الأرض، يمكنها استعادة هذه المعرفة بالتذكر وليس بالتعلم، الحواس تعطيك معرفة مشوشة وناقصة ومتغيرة ومرتبطة بالزمن وأشبه بظلال وأشباح للمعارف الحقيقية، لكن العقل وحده، فى رأى أفلاطون، هو القادر على تذكيرك بالمعرفة الحقيقية، التى سبق وعرفتها فى عالم المثل، كلما تخلصت من ثقل حواسك، وتحررت من رغبات وشهوات جسدك، يمكنك أن تتدرج بالعقل صعودًا من المحسوس إلى غير المحسوس إلى عالم المثل، وهناك تتذكر بوضوح بعض ما اكتسبته.
والروح خالدة لا تموت ولا تفنى بموت الجسد، من مات هناك ليس روحى بل جسدي، والموت هو عملية انتقال إلى عالم المعرفة الحقيقية، من وجود ناقص مرتبط بالزمن إلى وجود بلا زمن.