النضج كلمة
النضج هو الوصول لقمة التوافق الجسدى والعقلى والنفسي، وقد تحدثت سابقا عن كلمة السر والتى ترتبط ارتباطا وثيقا به، ألا وهى السلام الداخلى أو تحقيق حالة من الاتزان، أو الحفاظ على قواك العقلية والنفسية فى وضعها الطبيعى الهادئ المتزن.
وكلما زاد نضجك كلما زادت قدراتك وإمكانياتك فى الحفاظ على اتزانك العقلى والنفسى ومنع نفسك ولو بالقوة من الدخول فى دائرة الصراعات والتى قد تعكر صفو سلامك أو قد تعصف بهدوئك واتزانك.
ووفقا لعلماء النفس فيؤكدون أن النضج هو حالة من التوافق التى تؤكد تناغم العمل ما بين الوظائف العقلية والجسدية والفسيولوجية والنفسية والاجتماعية بصورة تمكن الفرد من فهم الحياة بتناقضاتها والاستقلالية فى التحكم فى شئونه واتخاذ القرارات المصيرية المنطقية السليمة فى حياته بمعزل عن سيطرة الآخرين وتأثيرهم، فلا يكون تابعًا لغيره.
وهناك عدة جوانب تسهم مجتمعة فى زيادة معدلات النضج العقلى لدى الفرد وهى الوعى الدينى السليم بمنظومة القيم والأخلاق المُشرعة، الوعى المعرفى المكتسب من مراحل التعليم المختلفة، حصيلة المعلومات المكتسبة من مجموعة قراءات متنوعة لبحور المعارف المختلفة، وأخيرا مجموع التجارب والصدمات المؤلمة والأقدار التى مررنا بها وردود أفعالنا تجاهها.
وبسهولة ويسر شديدين بإمكانك التعرف على علو مستويات النضج لدى الأفراد، خاصة النضج العقلى وذلك من خلال الكلمة التى تخرج من أفواههم، فحقًا كما قال الشاعر والأديب الراحل عبدالرحمن الشرقاوي: الكلمة نور وبعض الكلمات قبور، بالكلمة تنكشف الغمة ودليل تتبعه الأمة.
فعلى مستوى الكلمة تجد الناضج دقيقًا فى اختيار مصطلحاته ومفرداته، حريصًا على انتقاء أسلوب عرضها، كلماته تخرج من فِيه بميزانٍ موزون، تُعبر تعبيرًا صريحًا عن مقاصده دون لبس أو التباس، دونما تشويه أو تجريح أو سخرية، دون اتهام مسبق بغير بيِّنة أو دليل، كلماته يعرضها لكشف الحقيقة لا لتمجيد ذاته أو تحقيق الانتصار لنفسه.
كلماتٌ لها وزن، قد تكون قليلة ولكنها صادقة وحقيقية، وحينما يتفوَّه الناضج بكلمات فتأكد أنه سيلتزم بتحمل تبعاتها فلا يتراجع ولا يَجْبُن ولا يُجادل ويراوغ ولا يُغيِّر مقاصد كلماته ليُرضى الآخرين، فالناضج إن تَكَلم قَصَد وإن أخطأ اعتذر هذا فضلاً عن موضوعيته الشديدة فى عرض الأمور دون تحيز لطرف أو تطرف أو مغالاة أو مجاملات مزيفة لتحقيق أغراض معينة.
أما وعوده فهى دَيْن، لا يمنعه من تنفيذها سوى الموت، يُقاتل من أجل تنفيذ وعدٍ أطلقه أو ألزم به نفسه، أما قراره فمسئولية، يُصدره بحرية، وبمعزل عن سيطرة الآخرين عليه، فيتحمّل تبعاته ونتاج أخطائه دون تحميلها على الآخرين أو التبرؤ منها.
فالناضج شخص سليم البنية العقلية والنفسية، يُقر باحترام حقوق الآخرين حتى ولو اختلف معهم، يتقبَّل اختلاف الآخرين معه، لديه تصالح مع نفسه، يساعد الآخرين دون استعلاءٍ بقدراته أو مَنٍّ عليهم، شخص يعلن وبمنتهى الجرأة والثبات فضل الآخرين عليه، وينسب الفضل لصاحبه بكل شجاعة وثقة بالنفس، فالناضج هو شخص تقل لديه مستويات الإيجو فى الدم، فلا تجد لديه النزعة التكبرية المستفزة فى إثبات أفضليته على كل البشر فمهما زادت معارفه وتعاظمت خبراته فتجده يتطلع للمزيد ويسعى للأفضل، رأيه مستقل عن تبعية الآخرين، وما أكثر التابعين فى زماننا بلا رؤية أو بيِّنة.
فقبل أن تستعرض أية معلومات أو حقائق، وقبل أن تُدلى برأيك فى قضية، وقبل أن تُوعد أحدا بوعود، تأكَّد أولًا من وصولك لمستوى كافٍ من النضج العقلى يؤهلك لذلك، وراجع استقلاليتك وعدم تبعيتك لأحد، فالكلمة أمانة ومسئولية.