بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

أنا زارنى طيفك..

 

 

كلما جنّ علينا ليل الفتنة البهيم يزورنى طيف «ألبير»، حتى اسمه بالكامل نسيته فى لجّة الأيام- كانت أيامًا، وكان يجلس إلى جانبى فى الفصل وديعًا، لا أعرف من أين له كل هذه الوداعة، يقينًا من وداعة الست والدته «أم البير»، كانت تصنع الزبادى بيديها، كنت أتناوله هنيئًا مريئًا، كنت أحبها حبًا جمًّا، كانت كُمّل من السيدات، لا يصدر عنها حرف يجرح، لم نسمع لها صوتًا، كان صوتها خفيضًا لا يكاد يبين.

كان «ألبير» شاطر من يومه وكانت درجاته فى العربى لا تقل عن درجاتى، كان خطى جريئًا يخمش الورق الأبيض، كان خطه خجولًا يخشى خدش براءة الورق، كان رقيقًا، يحلف بالعذراء «مريم البتول» فنصدقه، كان ينطقها «العدرا» بالدال وبدون همزة على السطر، لم يكن بحاجة إلى الحلفان، كنا نصدق بعضنا البعض، لا نملك من بضاعة الكذب إلا كذبًا أبيض يتعاطاه الصغار هربًا من كتابة الواجب، الكذب يودّى النار، كان «ألبير» يخشى النار مثلنا.

كان يحب الحاج «أحمد البهنينى»، مدرس اللغة العربية والدين مثلنا، كان الحاج «أحمد» محل تقدير، فى وجهه ضياء يفيض منه البشر، نحب رؤياه، ونسعد للقاه، ونهشّ ونبشّ، كانت ضحكته ضحكة ملاك، بالكاد تفتر ابتسامته عن ثغره، يبسمل ويحوقل مفتتحًا الحصة الأولى، نتلو المعوّذتين، و"قل هو الله أحد".

الحاج «أحمد» علمنى الحروف كلها، حروف الحب لله فى لله، وكأنه ملاك بجناحين يرفرف على الرؤوس، يرْبِت على ظهر ألبير، كان يخصه ببعض الحنان، كان يخشى عليه الوحدة فى حصة الدين، لم يهن عليه مرة أن يُخرجه بره الفصل فى برد طوبة.

الدين لله، علّمنا الحاج طيب المعاملات، حب لأخيك ما تحب لنفسك، كان يضرب مثلًا، ونحب أمثاله، نقش فى قلوبنا حبًا للذين قالوا إنا نصارى (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى) كنا ننطقها بغباء طفولى «نُصرانى» بضم الصاد فتخرج قبيحة من التقبيح والتمييز المتوطن كالأمراض المتوطنة فى قعور البيوت المظلمة عن جهل، هذا ما وجدنا عليه آباءنا، «العلم نورٌ»، وكان الحاج «أحمد» مربيًا وسيطًا متعلمًا منيرًا وسط ظلمة تغشى بلدتنا الوادعة «منوف» وسط الدلتا على البحر الفرعونى، يسمونه البحر الميت ولم أعرف لماذا، ربما لأنه يخلو من الأسماك فصار ميتًا.

الحاج «أحمد» كان يتنسم وجود الله، كان جميلًا علّمنا الجمال، الله جميل يحب الجمال، وكان مرشدًا وهاديًا للمدرسة الصغيرة (مدرسة الأقباط الابتدائية)، هكذا كان اسمها على بوابتها الحديدية، ولا يثير ثائرة المسلمين وقتها، ولا يحك أنوفًا، ولا يثير أعصاب شايطة من الاستخدام المفرط للدين.

 مدرستى كانت فى حضن كنيسة منوف بـ»عزبة النصارى»، هكذا شاع اسمها دون أن يثير حساسية إخوتنا الأقباط باعتبار كل مصرى قبطيًا فى الأصول، وكانت الكنيسة مثل ملاك المدرسة الحارس، وكان القس الطيب يزور الحاج «أحمد» كل صباح، كانا صديقين، بينهما مودة ورحمة، كانت أجراس الكنيسة تدوّى فى قلب الفصول، وكأنها ألحان شجية.. يفتتح اليوم الدراسى بطيب القول، والتوحيد، «الله أحد الله الصمد.. لم يلد ولم يولد» كان الحاج «أحمد» ينطقها من فم معطر بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب.

يزورنى طيف «ألبير» كثيرًا كلما زعق أحدهم من نفسه المريضة بالفتنة، «ألبير» لا يزال طيفه نقيًا طاهرًا، قلبه مملوء بالمحبة، «ألبير» لم يعرف حقدًا ولم يضمر شرًا ولم يتأبط شرًا، يزورنى طيفه الشاحب كلما افتأت أحدهم على إخوتى بالباطل الذى يعتقده.

«ألبير» كان يحلف بالمسيح الحى عليه السلام، وكنت أحلف بخير الآنام، الرسول الكريم «صلى الله عليه وسلم»، حفظت ما تيسر من سيرة «عيسى» عليه السلام فى سورة «مريم»، أحببته وأمه ستنا مريم عليهما السلام، وتمليت صورته فى حضن العذراء معلقة فى مدخل الكنيسة، حفظ «ألبير» عن الحاج «أحمد» الكثير عن أخلاق الرسول الكريم، وإنك لعلى خلق عظيم، وبعثت لأتمم مكارم الأخلاق، كانت أيقونة الحاج «أحمد» «أدّبه ربه فأحسن تأديبه»، وعلى النهج نسير. (سطور من كتابى كيرياليسون / فى محبة الأقباط).