بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

خطأ هيرودوت (2)

لماذا أخطأ المؤرخ والمفكر الإغريقى هيرودوت عندما ربط الحضارة المصرية بوجود البيئة النهرية، وقال إن مصر هبة النيل؟ ببساطة أنه أهمل الجانب الإنسانى واهتم بالجغرافيا أكثر من اهتمامه بالتاريخ وانثروبولوجيا المصريين، ولم يدرس خصائص الطابع القومى المصرى ومنها التدين كما أوضحنا فى المقال السابق.

أما الخاصية الثانية من خصائص الطابع القومى المصرى التفاعل الإيجابى مع السلطة السياسية والحكم، ودعم سياسات الحاكم بشرط أن يكون محض اختياره، ولهذا يختلف المواطن المصرى عن غيره أنه إذا اقتنع برؤية الحاكم فإنه يكون له سند يعينه على تحمل مسئوليات وتبعات الحكم وهذا يفسر لنا لماذا أيد المصريون إنجازات محمد على باشا الذى ولاه إشراف القاهرة حكم مصر عام 1805، ونلاحظ أن المصرى قد يرتبط بحاكمه فى علاقة استثنائية تعيش حتى بعد رحيله ولكنه يتمرد إذا رفض الحاكم وتجربة حكم الإخوان مثل واضح، فقد ناهضوا حكم الإخوان المسلمين، عندما فشلوا فى تقديم انتمائهم الوطنى على ولائهم لتنظيم الإخوان ولم يكتمل عامهم الوحيد فى السلطة حتى قامت ثورة يونيه عام 2013 وتم إقصاؤهم.

والخاصية الثالثة يواجه المصرى مشكلاته بالابتسامة والسخرية، ولهذا هو شعب يعشق النكتة، وكم من موقف تعرض له المصريون إلا وترجموه إلى ابتسامة ساخرة ومهونة من وطأة هذا الموقف أو ذاك، وأكثر الفترات ابتسامًا كانت اكثرها إحباطًا مثل هزيمة 1967، وراج كثير من النكات فى فترة الإعداد لحرب أكتوبر 1973

وأخيرًا يتمسك المصرى بعاداته وتقاليده ويهتم بموروثه الاجتماعى، حتى ولو هاجر وعاش بعيدًا عن وطنه، فهو لا يقبل بالاغتراب إلا مضطرًا تحت ضغط ظروف اقتصادية على سبيل المثال، لكنه مهما تغرب يعود إلى وطنه مرة أخرى!

وعلى أى حال شكلت هذه الخصائص ملامح الشخصية المصرية عبر مراحل تاريخية مختلفة وساعدت على تكوين حافز القدرة على الإنجاز الحضارى الذى يحتاجه الإنسان لقهر تحديات الزمن والطبيعة، ما يجعلنا نؤكد أن قيام مصر الحديثة ما كان يمكن أن يتم إلا نتيجة قدرة المصرى القديم، على إنجاز الحضارة ببعديها المادى والفكرى وليس وجود نهر النيل.

ولعل هذا هو ما توصل له عالم الجغرافيا الكبير د. سليمان حزين فى كتابه «حضارة مصر أرض الكنانة»، إن مصر هبة المصريين، وليست هبة النيل فإذا كان فضل النيل يرجع إلى تراكم وتكون التربة الزراعية على ضفتيه لكن إعدادها من قبل الفلاح المصرى هو الذى صنع بيئة صالحة لقيام الحضارة الزراعية، ثم استدرار خيرها والحفاظ عليها وتنميتها على مر الزمن.

وكان عمل الإنسان المصرى إشارة البدء لبناء الحضارة عندما نزل مع عصر الجفاف إلى وادى النيل، ما يعتبر نقطة تحول خطير فى حياة أهل مصر، حيث بدأ المصريون يقيمون أسباب الحياة المستقرة والحضارة الزراعية، وحلت الوحدة الإقليمية محل الوحدة القبلية ثم وحدوا الصعيد والدلتا، فظهرت للناس أول أمة وأول دولة قومية مركزية، مع فجر التاريخ المكتوب ولا تزال حتى يومنا هذا!