عودة الناصرية جنون مطبق (19)
وقفنا في المقال السابق عند قيام حكومة الانقلاب في 12 فبراير سنة 1953 بتوقيع اتفاقية السودان مع بريطانيا التي تضمنت تقرير المصير والحكم الذاتي للسودان، والتي كان لها وقع سيئ جداً لدى الرأي العام، حيث تضمنت التنازل عن إحدي ثوابت الحركة الوطنية المصرية بوحدة مصر والسودان، والواقع في اعتقادنا كما دلت الأحداث فيما بعد أن عبدالناصر صاحب السلطة الحقيقية في مصر كان في عجلة من أمره حتي يصل لتسوية مع بريطانيا بشأن السودان وبعدها اتفاقية الجلاء عن مصر كما سنشرح في حينه والتي كانت نسخة تكاد تكون طبق الأصل من مشروع معاهدة صدقي بيغن التي رفضها الشعب وأسقطها في سنة 1946، كان عبدالناصر في تقديرنا في عجلة من تهدئة مخاوف بريطانيا منه حتي يحقق الجلاء، كما كان حريصاً جداً علي اكتساب مساعدة أمريكا له حتي يتم الجلاء لما كان يدور في رأسه من مشروع مستقبل برفع راية القومية العربية والحياد الإيجابي والاتجاه اقتصادياً، نحو اليسار عندما يحين الوقت، وكانت أمريكا في غاية الحماس لإتمام جلاء قوات بريطانيا عن مصر وكذا إنهاء النفوذ الفرنسي في سوريا ولبنان لتحل أمريكا محل دولتي الاستعمار القديم بريطانيا وفرنسا وتنفرد بالنفوذ في الشرق الأوسط، وبذلك التقت رغبات عبدالناصر وأمريكا مرحلياً كل منهما لأهدافه الخاصة، ولذلك تظاهر عبدالناصر في اعتقادنا بالصداقة للغرب حتي يحين الوقت لكشف حقيقة أهدافه بعد جلاء القوات البريطانية عن مصر.
كان مضمون اتفاقية السودان تجديد فترة انتقال يتوافر للسودان فيها الحكم الذاتي الكامل تمهيداً لإنهاء الإدارة الثنائية المصرية البريطانية علي السودان، ويكون للحاكم العام البريطاني خلالها السلطة العليا داخل السودان بمعاونة لجنة خماسية من اثنين سودانيين ومصري وبريطاني وباكستاني، وتعتبر السودان إقليماً واحداً، وتقرر تأليف جمعية تأسيسية منتخبة لتقرير مصير السودان، فإما أن تقرر بعد فترة الانتقال الارتباط بمصر وإما أن تختار الاستقلال التام، علي أن تنسحب القوات العسكرية المصرية والبريطانية من السودان فور قرار البرلمان السوداني برغبته في الشروع في اتخاذ تدابير تقرير المصير، وتعهدت مصر وبريطانيا باحترام قرار الجمعية التأسيسية فيما يتعلق بمستقبل السودان، قامت حكومة الانقلاب العسكري بعد ذلك في 18 يونيو بإعلان الجمهورية وسقوط حكم أسرة محمد علي وتضمن قرار مجلس قيادة الثورة بإعلان الجمهورية تولي محمد نجيب رئاستها مع احتفاظه بسلطاته الحالية في ظل الدستور المؤقت.
وفي أكتوبر 1953 عين جمال سالم وزيراً للمواصلات وزكريا محيي الدين وزيراً للداخلية، وظل عبدالناصر في منصب نائب رئيس الوزراء، وفي يناير سنة 1954 عين كمال الدين حسين وزيراً للشئون الاجتماعية، وبذلك زحف قادة جمعية الضباط الأحرار تدريجياً إلي وزارات الحكم المدني، وكانت إسرائيل قد فاجأت الحكومة العسكرية في سبتمبر سنة 1953 بالعدوان علي منطقة العوجة منزوعة السلاح في سيناء حسب اتفاقية الهدنة مع إسرائيل سنة 1949 التي أنهت الحرب العربية الإسرائيلية الأولي، وقام مجلس القيادة في 8 نوفمبر سنة 1953 بمصادر أموال وممتلكات أسرة محمد علي.
وكانت عوامل استقرار السلطة في يد عبدالناصر وواجهته الطيبة محمد نجيب ما زالت لم تكتمل وبدأت تحركات داخل الجيش لعمل انقلاب جديد وإسقاط مجموعة عبدالناصر وكان أول هذه المحاولات الانقلابية قد تم القضاء عليها، وكانت بقيادة البكباشي محمود حسني الدمنهوري وشقيقه اليوزباشي محمد رفعت الدمنهوري، وقدم كلاهما لمحكمة عسكرية مؤلفة من مجلس قيادة الثورة، وحكم علي الأول بالإعدام وعلي الثاني بالطرد من الخدمة، ثم خفف حكم الإعدام إلى السجن المؤبد، ثم جاء الدور علي رشاد مهنا بعد إقالته من عضوية مجلس الوصاية علي العرش، فقد اتهم رشاد مهنا ومعه أحد عشر ضابطاً بتدبير مؤمرة ضد الحكومة القائمة، وحكمت عليهم محكمة عسكرية من أعضاء مجلس قيادة الثورة في 19 مارس سنة 1953 بالسجن المؤبد لرشاد مهنا ومدد سجن مختلفة لتسعة من الضباط معه، وفي 15 سبتمبر 1953 أعلن محمد نجيب في مؤتمر شعبي عام بميدان الجمهورية قرار مجلس قيادة الثورة بتشكيل محكمة الثورة لمحاكمة بعض السياسيين القدماء، وكانت المحكمة برئاسة عبداللطيف البغدادي وعضوية أنور السادات وحسن إبراهيم، وقدم للمحكمة إبراهيم عبدالهادي رئيس الوزراء الأسبق وحكم عليه بالإعدام خفف للمؤبد، وقدم بعده ضابطا البوليس سعد الدين السنباطي وإسماعيل المليجي وبرأتهما المحكمة، ثم قدم القطب الوفدي إبراهيم فرج بتهمة مشكوك تماماً في صحتها وهي التخابر مع جهات أجنبية وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاماً. ثم حكم علي عدد من المدنيين ورجال البوليس بتهم ترويج شائعات كاذبة تضر بمصالح الوطن وحكم عليهم بالسجن مدداً تتراوح بين المؤبد وعشر سنوات سجناً، وكانت تهمة أحدهم هي التجسس لصالح الإنجليز وحكم عليه بالإعدام شنقاً ونفذ الحكم.
كما حكم علي عدد من اتهموا بالتجسس لحساب بريطانيا وحكم بالإعدام علي بعضهم ونفذ الحكم، وحكم علي الباقي بالأشغال الشاقة لمدد تتراوح بين المؤبد وعشر سنوات.
وكانت أشهر قضية هي محاكمة حرم الزعيم الخالد مصطفي النحاس بتهمة الإثراء غير المشروع عن طريق نفوذ زوجها وحكم بإعفائها من عقوبة السجن لمرضها، ولكن حيثيات الحكم أظهرت هدف المحاكمة الأصلي وهو التشهير بالزعيم الخالد وتلويث ماضيه، ولكن شاء المولي أن يرد له الشعب المخلص اعتباره بعد اثنا عشر عاماً خلال جنازته، كما سيلي ونترك للمقال التالي محاكمة الزعيم العظيم فؤاد سراج الدين.
الرئيس الشرفي لحزب الوفد