بوابة الوفد الإلكترونية
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس التحرير
عاطف خليل
المشرف العام
ياسر شوري

نافذة نجيب محفوظ

 

لم يعد ثمة ما يهم، أمس كاليوم كالغد، ترتفع الأسعار وتلهب ظهورنا، ومع ذلك ينتظر الجميع الجمعة البيضا وتخفيضاتها، يقفون ويتكاثرون كالذباب من الصباح الباكر على أبواب المحلات، ولا يتركون شيئاً يفوتهم، يحملون ما يستطيعون حمله، وأثناء العودة يبدأون فى الشكوى من غلاء الأسعار، تكثر النكات وتتقافز بين الأفواه والآذان ومع ذلك لا أحد يضحك، الجميع يسير ويلطش ويهبش فى أى شىء ولا أحد يشبع ولا أحد سعيداً.

 ننام بنصف عين خوفاً من قرارات جديدة غير التى يصنعها التجار والحكومة حتى نستطيع أن نستيقظ ونلحق أى شىء ونفوز بأى شىء، نجلس على المقاهى ونثرثر فى الندوات واللقاءات ونخرج منها، ونحن نحمل أسفل إبطنا كتباً وجرائد لا تحصى، وعندما نركن إلى أى مكان ونفتح أى كتاب نجده يفح بالسواد والجهل والأساليب الملتوية، نحاول الهرب من كل الطلبات والواجبات التى تحيط بنا، نلوذ فى كهف أو نسقط فى بئر عميقة لا يعلم قرارها أحد، ومع ذلك نصبح محاصرين أكثر من حصار طروادة وستالنجراد، يسرق الأصدقاء الابتسامات والأفكار التى تسقط من أفواهنا ونحن نتحدث عن مشاريعنا المستقبلية ثم يضحكون.

 يزاحمك الكلاب والذباب على لقمة عيشك فى مقال تكتبه بجريدة أو مجلة، ولا نخاصمهم، فى كل صباح تجد ورقة صغيرة بخط سيئ ممتلئة بالطلبات والأوامر التى يجب أن تنفذها، تذهب إلى العمل فلا تجد غير النميمة والكلمات الجوفاء عن احتمالات رفع المرتبات أو نزول السبعة فى المائة على المرتب، أحاول أن أتفادى كل تلك الأشواك وهذه النيران، وأن أستريح على سور حديقة مدينة التحرير، فأجدها وقد التفت بالأسلاك الشائكة واثنين من العساكر بملابسهما السوداء يأمراننى بأن ابتعد، أحاول أن أخبرهما أن دمى سال فى هذا الميدان ذات يوم وساقى جرحت، فلا يفهمان ما أقوله، ابتعد، واشترى ساندوتش بطاطس بخمسة جنيهات، واتجه للمجلس الأعلى للثقافة وأجلس فى الكافتيريا، وما أكاد أفتح الساندوتش حتى يأتى لى العامل ويأمرنى بحزم ألا أكل هنا، أطلب منه كوب شاى، فتأتى الفاتورة بأحد عشر جنيهاً، أعطى له عشرين جنيهاً فيعود لى بخمسة جنيهات والباقى يلطشه لعدم وجود فكة.

 أسير وقدمى تتألم، أعبر كوبرى الجلاء، وأنظر للأرض التى كانت ملهى «بديعة مصابنى» قديماً والتى يقام عليها السفارة الروسية والشيراتون، وأبتسم، أحاول أن أسير على الكورنيش فلا أرى نهر النيل بسبب السور العالى لكازينوهات لا أستطيع أن أدخلها، تألمنى قدمى بشدة نظراً لارتفاع الرصيف وعدم استوائه، فى النهاية أجد نفسى واقفاً أمام شقة نجيب محفوظ، أجدها مغلقة بالنوافذ الحديدية ويعلوها التراب، تبدو لى كسجن لا يزور أحد نزلائه، حتى الأزهار التى كانت تزينها ماتت، تفتح إحدى ضلفات النافذة، ويطل نجيب محفوظ بنصف عين وهو يرتعش، أساله من فعل بنا كل هذا؟ يخبرنى بقلق: إحنا اللى قتلنا الفلاحة ولأزم نسلم نفسنا، بعدها يغلق النافذة ويختفى تاركاً تلالاً من الجثث التى تسير وتعدو إلى حتفها الحتمى، ولا تعلم ما يحيط بى من نيران.